الخيكاني: الشعر هو كل شيء جميل ونبيل وجيد

30 سبتمبر 2023

حاوره: هاني نديم

انثروبولجي يكتب الشعر.. في نص مهند الخيكاني ما يدهش وما يثير الأسئلة، إنه من جيل رائع يزدهي به العراق اليوم، وبالتالي يحتفي به الوطن العربي بأسره، الخيكاني الذي ترك علامةً فارقةً في نصه المحتفي بالمعرفة إلى جانب اللغة، التقيته في هذه الدردشة عن تجربته. سالته:

  • بين الانثروبولجيا والشعر، أعتقد أن الرابط بينهما أكبر مما نعرف، حدثني عن تلك الروابط الخفية بين اختصاصك الأكاديمي في علوم الإنسان والشعر الذي عرفت به والأدب عموما..

– لقد درست الأنثروبولوجيا بالمصادفة المحضة، ويا لها من مصادفة معرفية لذيذة وممتعة، وجدتني حينها منذ المحاضرات الأولى مثل سمكة تلتقي بمائها المقدر لها، إذ تكشّفت لي تفاصيل وظواهر كنت ألتقطها في حياتي اليومية عن الثقافة والمجتمع والحياة، لكنها كانت تنطوي على شيء من الضبابية والاشتباك، جاءت الأنثروبولوجيا لتفكّك كل تلك الخيوط المتشعّبة خيطًا تلو الآخر حتى يظهر الخيط من رأسه الى بدنه ارتحالًا الى الجذر، فتنجلي الضبابية ويتسيّد الوضوح المعرفي الذي سيصبح لاحقا أساسًا محوريًا في فهم الظواهر الثقافية و الإنسانية ككلّ، ومن ثم القدرة على تحليلها وتفكيكها، فكما تعلم صارت الأنثروبولوجيا تدخل في شتّى مجالات الحياة. وليس الشعر بمعزل عن هذه الحركة الأصيلة في البحث عن بذور الأفكار و الرؤى في معالجة مثل تلك الظواهر الإنسانية، هنالك تشابه يمتد بينهما، يتمثل في الغوص إلى أقاصي الأعماق من أجل تحقيق مشاهدة كلّية، ثم هنالك الزاد المعرفي الذي يتيح أرضًا مهيأةً لنمو الآراء والتصورات، إذ يسمح في الانتفاع منها والإضافة عليها، واستعارة مثل تلك الخاصية في استيعاب ظواهر جديدة.

لنا في شذرات نيتشة وسيوران، كذلك المتصوفة من قبلهم نموذجًا في ذلك التشابك السحري الفاتن بين الفلسفة والشعر

أعتقد بأن الشعر والأدب عامة لا يتحقق ولا يترك أثرًا حقيقيًا إذا لم يكن يستند في الداخل على خزين معرفي مهذّب ومشذّب، يستطيع من خلاله تحقيق الناتج الأعظم بالنسبة للنص، ألا وهو الرؤى. بل وأعمِّمُ ما قلت على كلِّ عملٍ فني مهما كان نوعه وشكله، إذ لابد من إسناد الفكرة الملتقطة إلى معرفة تضفي قيمةً فكرية ربما أو فلسفية تجاور طاقة النص الجمالية وترفعها الى مقام أسمى، ولنا في النصوص العابرة للقرون والعقود نماذج صريحة من الشرق والغرب، حين نبدأ بالتساؤل عن سبب تحليقها كل هذه الأزمان، سنجد تلك القيمة المعرفية التي يكتنزها النص وتتجلى في مقدرته الأعلى في الكشف عن أعتى النقاط الغامضة والمظلمة في النفس البشرية، حتى وإن كان النص مترجمًا.

لنا في شذرات نيتشة وسيوران، كذلك المتصوفة من قبلهم نموذجًا في ذلك التشابك السحري الفاتن بين الفلسفة والشعر. ولو أننا قمنا بتفكيك الكثير من الشخصيات والأحداث في الجنس الروائي مثلا الى أصغر دقائقها، سنعود الى كل تلك العلوم الإنسانية من اجتماع ونفس وفلسفة وانثروبولوجيا وغيرها، هناك سنراها تقبع في الأسفل، حيث عناصرها الأولية. ما أريد قوله: الأدب والمعرفة يكملان بعضهما في وجه واحد لكن بأساليب متفرقة..

 

 

  • برأيك هل تكفي اللغة للشاعر؟ وهل بالإمكان معرفة النص المتكئ على مراجع معرفية وعلوم متصلة من النص البمني لغوياً فقط؟

– لا يمكن للشاعر أن يكتفي باللغة وحدها، هذا النوع من النصوص هو ما يفسد الشعر، ويسهّل الدخول العشوائي إليه، وبسبب هذه الظاهرة، ظاهرة النصوص المحاكاتية أو نصوص الخبير، هناك تجارب بأكملها لا تعدو أكثر من كونها تجمعات لغوية مرتبة على هيأة النصوص في تنظيمها وترتيبها، إلّا أنها تخلو من القيمة الرؤيوية التي تجعلها تتحدى الزمن، وليس فيها سوى أن صاحبها متمرس ومتقن لتلك المحاكاة.

يمكن أن تكون اللغة خادعة، خصوصا حين يستعير الشاعر مفاهيم ومصطلحات في مجال ما دون وعي كافٍ بما يقول، مثلا هناك فارق شاسع بين من يستعير مصطلحات صوفية شائعة، وبين من يتمثل ذلك الجانب الإشراقي التصوفي في نصّه. في النهاية، اللغة هي المفتاح والباب لكل ما قيل، ولكن تقع على أجهزة التلقي مهمة التشخيص وإدراك مثل هذه الثغرات، فما يميّز الفنان عن الحِرفي، قدرته على الابتكار والتجديد لغةً ومضمونًا؟

لا يمكن للشاعر أن يكتفي باللغة وحدها، هذا يفسد الشعر ويسهل الدخول العشوائي إليه

 

  • أحب أن استطلع معك روافدك الكتابية، متى تكتب وماذا تقرأ وما هو مفهوم الشعر لديك، خاصة وأنك تكتب كل الأشكال الشعرية باقتدار

– في الحقيقة أحاول أن لا أضع نفسي في إطار قرائي محدد، و أرى بأن أغلبنا يحاول، فالقراءة المتنوعة من الكتب الى المقالات في مختلف المجالات تساعد في إدراك الحياة وفهم الوقائع بشكل أدق، وهي في الخلاصة بوعي أو دون وعي، تتسرب الى الكتابة وتنمّي عقلية الكاتب، وتضفي تنوعًا في أفكاره وموضوعاته.

كذلك بالنسبة للكتابة، ليس هنالك وقت محدد أو طقوس معتاد عليها لكي أكتب، متى ما شعرت بالحماس والرغبة إزاء فكرة أخذت تنبض وتُلِّح، أميل الى كتابتها، وإذا أحسست بأنها تحتاج الى وقت لكي تنضج أكثر، أمنحها ما تحتاجه من وقت، ولكن في الغالب تنضج لدي الفكرة تدريجيًا أثناء الشروع بالكتابة. أجاب بورخيس مرةً في حوار متلفز حول كتابته القصصية بما معناه: إنني أعرف أول جملة و آخر جملة.

أما بالنسبة لمفهوم الشعر لدي، إننا يمكن أن نراه ونسمعه، نقرؤه ونحسّه ويحسّنا، يرانا ويقرؤنا ويسمعنا أي العكس بالعكس، الشعر موجود في كل مكان وفي كل زمان، هو حالة من الدهشة والجمال والتألق اللحظوي في قالب من الأبدية، يشبه تناول رشفة من نبيذ يقال عنه: إنه صنع في جنة ما وعُتّقَ فيها. تعيش فيها شعورا بالسعادة بغض النظر عما إذا كانت المشاعر المتقافزة اليك من الحالة حزينة أو سعيدة، ويا لغرابة الأمر ! إنه حزنٌ يسعدكَ، وهو فرحٌ يسعدك أيضا، لذلك كلمة “شعر” كتعريف يمتاز بالاعتيادية والمباشرة، ويحث على الانصياع لقوانين وثوابت، هو غير الشعر الذي يتجلى في الحياة بكل معانيه وصفاته وملامحه المختلفة، إنه الشعر في حالته السائلة والمحضة.

مفردة الشعر التي تسوق كل ذلك الجمال قبل أن يدخل مطبخ الاشتغال والعمل الفني هي الأوسع، هو عندما نقول عنه أحيانا: الشعر موقف. بلى هو كل شيء جميل ونبيل وجيد، وكل قبيح ومهمش قبّحته العادات والتقاليد بفعل الثقافات.

كما أن الشعر يمكن أن يكون موجودا في كافة الفنون والآداب في صيغته السائلة.

 

  • كيف ترى المشهد الشعري العراقي وخاصة الشباب اليوم؟

– المشهد الشعري العراقي اليوم يحفل بتجارب شبابية موهوبة ومثابرة، وعلى الرغم من وجود مآخذ لأسباب عديدة، قد تكون خاصة بالمشهد الشعري العراقي وقد تكون مشتركة وحاضرة في أي مشهد آخر ، إلا أن المشهد لا يخلو من دماء جديدة تضيف وتستثمر التجارب الشعرية السابقة، ولهذا هنالك تجارب حديثة السن لكنها تكتب بخبرة وعمق تكاد لا تعرف عمر صاحب النص لو لا معرفتك الشخصية به. ومع ذلك فإن المشهد الحالي يخضع برأيي لمثل ما خضع له في السابق، تظهر عشرات التجارب إلّا أن القليل القليل فقط هو من يضيف، ويستمر، وهذا القليل يضيع أحيانا في زحمة الوافدين وخمول النقد.

قد يعجبك ايضا