ناجي جبر.. ابن المسرح و”زكرت” الشّاشة وقبضاي الشّام
أبو عنتر: "يا باطل ع الرّجال اللي بتبكي"
27 يوليو 2023
أمامة أحمد عكوش – نص خبر
من المسرح إلى الشّاشة الكبيرة.. استعراضٌ وفضاءٌ وموتٌ وحبٌ، بسمةٌ ودموعٌ وأحلامٌ، ومع الصّغيرة.. نادرةٌ هي الأماكن المغلقة التي تُخلق فيها حياة.. إلّا أنَّه خلقها، عبر مشهدية بصرية نشاهد من خلالها القضبان، وجعلنا لا نحزن لرؤيتها، فمن بينها جعل الابتسامة عنوان؛ خريج السّجون.. الذي أحبَّه الكبار والصِّغار والقاصي والدّاني؛ من الاستحالة جمع المكر والبراءة.. إلّا أنّه فعلها بإتقان، فـ أحببنا ذلك مِنَ المتفاني.. المعطاء، الشّهم، العفوي، المقدام .. “زكرت الشّاشة” قبضاي الشّام.
جواز سفر
في التّاسع من شباط/فبراير عام 1940 أذن القدر بصرخة حياة ناجي جبر الأولى في مدينة شهبا بمحافظة السّويداء السّورية، وسط أسرة غدا معظم أفرادها من الوسط الفنّي، فهو شقيق الممثّلان محمود وهيثم جبر، كما أنّ الممثلة هيفاء واصف زوجة أخيه، علاوةً على كونه عَم الممثّلتين ليلى ومرح جبر، وهو الذي ما فوّت مناسبة إلّا وأكّد فيها أنّه مدين لأخيه الأكبر محمود في وضع قدمه على الطّريق الذي أحبّه منذ الطّفولة “الفنّ”. أدّى بعض الأدوار في بعض عروض المسرح العسكري، لينتقل بعدها مع أخيه إلى المسرح القومي، ويشاركه العديد من أعماله، التي قدّمها لفرقته الخاصّة، التي أسّسها محمود عام 1968، ومن الأعمال التي شاركه فيها (صياد وصادوني، حط بالخرج، ليش هيك صار معنا)، وعدد آخر من مسرحيات (الكوميديا الشّعبية، والكوميديا الاجتماعية النّاقدة).
الماغوط .. جبري .. ونوس .. كوكش
ذات الفترة.. شهدت مشاركة ناجي في بعض المسلسلات التّلفزيونية، ومنها “حكايا الليل لمحمد الماغوط وغسان جبري عام 1968″، و “أولاد بلدي لأكرم شريم وعلاء الدين كوكش عام 1972” التي أدّى فيها دور طالب جامعي مفلس وعاطل عن العمل، يهوى كتابة الشِّعر، ويحاول أن يجعل من هذه الهواية قناعاً لبطالته وإفلاسه، ما دعا النّقاد إلى القول: “هذه التّجربة لناجي جبر تختلف تماماً عن سابقاتها، هي مدعاة للتأمّل والدّراسة، أدّاها جبر بنجاح”. تاريخ ناجي الفنّي على الخشبة، حتّى قبل أن ينفرد بتقديم مسرحياته الكوميدية الخاصّة، لم يك مقتصراً على المسرح الذي قدّمه محمود، بل كانت له تجارب مسرحية أخرى تنتمي إلى مناخ مختلف، فها هو الأستاذ المؤسّس سعد الله ونّوس يختاره عام 1972 ليشارك في عرض “مغامرة رأس المملوك جابر”، باسم فرقة “المسرح” التّابعة لنقابة الفنّانين آنذاك، وفي ذات العام انتسب إلى النقابة. سرعة استجابته لكلّ جديد يعرض عليه، وشخصيته المرنة في التّأقلم مع أيّ زِيٍّ فنّي تتطلّبه الخشبة، كانا من أهمّ العوامل التي جعلت علاء الدّين كوكش يدعوه ليشارك في مسرحية “لا تسامحونا”، نوع مختلف تماماً عمّا سبق من أعماله المسرحية، إذ تضمنت لوحات كوميدية ناقدة بأطروحات ثقافية وسياسية جريئة، من كتابة كوكش وإخراجه رفقة فيصل الياسري.
أبو عنتر
مرحلة جديدة أسّست لهوية التصقت ببطلها حتّى الرّمق الفنّي الحياتي الأخير.. ها هو نورها يلوح في أفق عام 1972، مع شخصية بات الشّارع العربي من أقصاه لأقصاه يعرفها وهي “أبو عنتر”، والتي ساقها القدر إليه، بعد أن اعتذر الممثّل زياد مولوي عن تجسيدها، ليبتسم الحظّ لجبر بأنْ تُعرض عليه الشّخصية في مسلسلة “صح النّوم” لنهاد قلعي وخلدون المالح. كتب قلعي لـ “صح النّوم” مجموعة من الشّخصيات النّمطية الشّعبية الجديدة على الكوميديا السّورية آنذاك، منها (أبو رياح، أبو جاسم، أبو عنتر)، إلّا أنّ شخصية أبو عنتر حملت في الأصل مسمّى “أبو حديد” المرسومة لخريج سجون، قوي البنية، مفتول العضلات، رغب ناجي أن تحمل الشّخصية اسم “أبو رعد”، إلّا أنّ قلعي أسماها أخيراً “أبو عنتر”. إذاً.. ناجي جبر قبل أبو عنتر ليس هو ذاته بعد أبو عنتر، الشّخصية التي تركت بصمتها في صفحات تاريخ نصوص الدّراما السّورية، وتفرُّدها على أشرطة كاميرات الدّراما العربية، مسلسلة “صح النوم” رفقة الفنانين (نهاد قلعي “حسني البورظان”، دريد لحام “غوار الطّوشة”، عبد اللطيف فتحي “أبو كلبشة”، ياسين بقوش “ياسينو”، نجاح حفيظ “فطوم حيص بيص”).
تقمّص!
كيف لا!.. وهو “أبو عنتر” الذي كان مصرّاً على صنع تاريخ خاص به وحده، أبو عنتر الذي التقى غوار الطّوشة في السّجن، لفت الانتباه بعوالم جوهر الشّخصية وكاركترها الخارجي الخاص (الشّروال، والصّدرية، والكوفية، والطّاقية)، وبمفرداتها الصّامتة (كلمة “باطل” المطبوعة على الذّراع)، والمنطوقة التي تحمل لغة شعبية مستقاة من البيئة المحيطة في السّجن تارة، ومن خارج أسواره “الأحياء الدّمشقية” تارة أخرى، مفردات شهيرة من مثيل (عرضية، مالا فكاهة، مالا مازية). ليؤدي ناجي الدّور بأسلوب إقناعي مذهل، لم يعرف صنّاع العمل والنّقاد والجمهور.. هل ناجي مَنْ تقمّص أبو عنتر؟! أم أبو عنتر مَنْ تقمّص جبر؟! .. نجاحه منقطع النّظير أهلّه ليكون لازمة دائمة من لوازم كوميديا نهاد ودريد، وبذات الوقت.. ليكون مادة فنية دسمة للنّقاد والصُّحفيين، وبكلّ تأكيد.. ليغدو نجماً شعبياً في المصاف الأولى لدى الجماهير.
سنّيد .. بطل
كما أنّ النّجومية التي حقّقها أبو عنتر في “صح النّوم”، جعلت الشّارع السّوري يستفيق إلى أمر لم يك مسبوقاً إلى هذا الحد، إذ قال الكثير من النّقاد حينها: “في السّينما العربية، وأقل منها في الدّراما، كانت تتواجد شخصية تقوم بدور الـ “سَنِّيدْ” لبطل العمل، كانت وظيفته استنطاق هموم البطل لا أكثر، لكنّ الحدث الجلل.. أن ناجي جبر استطاع بحرفية العاشق للفنّ، ولشخصية أبو عنتر، أن يرقى إلى شكل من أشكال العلاقة الثّنائية مع بطل العمل غوار الطوشة”، وهو الأمر الذي فنّده نقّاد الألفية الجديدة لدى دراستهم لأسباب نجاح التّجربة الدّرامية الكوميدية العريقة “صح النّوم”، بالقول: “في صح النّوم.. صحيح أن الثّنائي الأساسي لغوار بالدّرجة الأولى هو حسني البورظان، لكن في لحظة من اللحظات، كان بإمكان المشاهد أن يفكّر أنّ أبو عنتر، له مساحة موازية ضمن المحاور الثّنائية، وإلّا لما استطاع أن يأسر أهل الكار والمشاهدين بهذا الحضور الأخّاذ”، وهو الأمر الذي جعل دريد لحام عندما توقّف نهاد قلعي عن العمل نتيجة مرضه، أن يشكّل ثنائياً مع ناجي جبر، ولكن هذه المرّة في مسلسلة “وين الغلط” للماغوط والمالح، ومع هذا الثّنائي الجديد، قال الأديب ممدوح عدوان: “نستطيع القول إنّ الثّنائي غوار الطّوشة أبو عنتر، البديل الأفضل عن الثّنائي غوار الطّوشة حسني البورظان”، ليكمل الثّنائي نجاحهما في عدة أعمال منها (ملح وسكر، وأبو المفهومية). كما شهدت الثّمانينات تأسيس ناجي جبر فرقة مسرحية حملت اسمه، قدم عبرها العديد من الأعمال المسرحية منها “ليلة أنس” لهشام شربتجي، و”إعلانات أبو عنتر”. إلّا أنّه جافى الشّاشة الصّغيرة في هذا العقد، بعد أن غاب عن أعمال دريد لحام منذ “وادي المسك” سنة 1983، باستثناء ظهوره في بعض برامج المنوعات التّلفزيونية.
سيفو
وفي العام 1992 اختاره بسام الملّا للمشاركة في مسلسلة “أيام شامية” لأكرم شريم، العمل الذي يعدّ علامة فارقة بين أعمال البيئة الشّامية، وكان فيه ناجي “القبضاي” الهارب من مطاردة الدّرك العثماني، إلى حارة غير حارته، والذي سرعان ما ينسج علاقات جديدة مع من استضافوه، الشّخصية التي تصنعها الشّهامة، وطيبة القلب، وخفّة الظّل، وقوة الحضور، ومهارة الأداء الميلودرامي، وعذوبة الطّفل المتواري خلف رجولة طاغية، ونلحظ هنا.. أنّ شخصيته تقاطعت مع السّمة العامة لشخصية “أبو عنتر”، إلّا أنّها في الوقت نفسه، بدت مختلفة في كثير من التّفاصيل الجديدة التي برع بأدائها، كما اختار صنّاع العمل كسر النّمطية في شخصيته لناحية الاسم أيضاً، فكان هذه المرّة “سيفو العكر – القبضاي سيفو”، وكان أنْ أسر قلوبهم، كما فعل مع لبّ المشاهد.
عودة
ها هو أبو عنتر على موعد جديد مع غوار، جرّاء مشاركتهما في آخر ثنائية بينهما عام 1998 في مسلسلة “عودة غوار – الأصدقاء” إخراج دريد لحام، وتألّق جبر في هذا العمل، دعا النّقاد إلى القول: “بدا ناجي جبر في عودة غوار، بالحرارة والعفوية نفسها مع علاقته بشخصيته النّمطية القديمة، وقدّم مثالاً آخر على قدرته النّفاذة في الإخلاص لشخصيته النّمطية التي أحبّها، دون أن تشغله وساوس الخروج من أسرها أم لا؛ ليعود ويتألّق عام 2000 في عمل بيئة شامية شهير، لا يقل عن “أيام شامية”.. بل يكمّله وفق عديد النّقاد، هو “الخوالي”، لأحمد حامد وبسام الملّا، والمعالجة الدّرامية لنجاح المرادي، حمل فيه ناجي اسم “صياح”؛ وأيضاً.. في البيئة الشّامية قدّم دور “عقاب” عبر مسلسلة الحصرم الشّامي عام 2007، ومن ثمّ “نمر” في مسلسلة أهل الرّاية عام 2008، وجمع هنا.. بين شخصية القبضاي التّقليدية، وبين شطحات الهوس الصّوفي التي تأخذ الشّخصية في مسارات أخرى. كما لعب في ذات العام دور “عبد الصّمد الفوال” عبر مسلسلة أولاد القيمرية. وفي استثناءات نادرة، قدم جبر درامياً شخصيات مختلفة بشكلٍ كاملٍ عن الشّخصية التي اعتاد الجمهور أن يراه في فلكها، إذ كان ضابط الأمن في مسلسلة “غزلان في غابة الذئاب”، ورجل الأعمال المستهتر في “آه يا زمن”.
سينما
كما وقّع جبر اسمه على الكثير من الأفلام السّينمائية منها (شقة ومليون مفتاح، فاتنة الصّحراء، هاوي مشاكل، صيد الرّجال)، وكانت له البطولة في أفلام منها (الاستعراض الكبير، الحسناء وقاهر الفضاء، أموت مرّتين وأحبّك)، علاوة على تقاسمه البطولة في فيلم “شيطان الجزيرة” عام 1978 مع الفنّانين المصريين محمود عبد العزيز ويسرا. ومن أدواره السّينمائية التي تركت بصمتها في الذّاكرة الفنية، شخصيته في شريط “أحلام المدينة” عام 1984 لمحمد ملص وسمير ذكرى، إضافة إلى دوره في “صعود المطر” عام 1995 لحسن سامي يوسف وعبد اللطيف عبد الحميد.
أبو راشد
“ناجي جبر لم يشغل باله بفلسفة الأمور وأدلجة الأفكار، بل يتحمّس بحب، معتبراً أن مهمّته كممثّل تنحصر في الاقتراب من الشّخصية والإيمان بها، لهذا نجح في أن يجعل من موهبته وقوة حضوره، حالة قابلة للاستثمار متى وُجد الكاتب الجيد، والمخرج اللماح” هذا ما قاله أكثر من ناقد في تجربة ناجي جبر الفنية التي امتدّت على مدار أربعين عاماً، كان ختامها دوره “أبو راشد” عبر بوابة مسلسلة “بيت جدي” عام 2008.
زوج .. أب
تزوّج القبضاي عام 1984 من ليلى الجرمقاني، وأنجبا (لجين _ هيا _ ريبال _ مضر). هو خريج السّجون في الدرّاما، مّنْ أحبّه الكبار والصّغار، بعد أنْ غدا لا يدخل السّجن يوماً، إلّا كمؤازرٍ لصديقه، أو نتيجة ظلم، أو سوء تقدير، مَن حوَّل صورة السّجن إلى حالة فيها الكثير من الارتياح الكوميدي، التي تغيب عنها مظاهر القسوة والشِّدة، لتحلّ محلّها ألفة حياتية مع القضبان، فيها الكثير من التّحدي الخفي لمفهوم العِقَاب، من حوّل كلّ هذا إلى ما يريد بعذوبة آسرة، كأنّما يخلق سجناً مفتوحاً كهذا الذي كلّنا فيه “الحياة”.
“يا باطل ع الرّجال اللي بتبكي”
مَنْ وقَّعَ اسمه على أكثر من ثلاثين فيلماً سينمائياً، ونحو خمسين مسلسلة تلفزيونية، وعشرات المسرحيات، هو ناجي جبر القائل في حقّ ناجي جبر: “أنا أنتمي للجيل الذي خلق في أرض متصحّرة، قلع منها الصّخور وزرعها وسقاها حتّى أثمرت وأزهرت ياسميناً وأشجاراً، ليأتي أولادنا من بعدنا ويجدوا كلّ شيء جاهزاً”؛ وهو ناجي جبر القائل في حقّ أبو عنتر: “أبو عنتر رجل مستقيم، لا يحبّ الخطأ، ويعتقد أنّ من واجبه تصحيح الخطأ بطريقته وأسلوبه، فيكون مصيره السّجن”. ها هي ابتسامة من خلق مملكته المصغّرة، بتطبيقه لنظامه وقانون عدالته الخاصّ به، كما تروق لمزاجه الطّفولي العذب، والمتقلّب، في اجتماع نقيضين يستحيل حصولهما مع سواه “المكر والبراءة”، ولكنّ القاسم المشترك بينهما “الابتسامة”، ها هي ابتسامته تغيب في 30 آذار/مارس عام 2009، بعد صراع مرير مع سرطان الرّئة، لتسدل الحياة ستارة المشهد الأخير على قبضاي الدّراما السّورية، وليبكي رفاق درب “الزّكرت” ومحبّي الصّادق المعطاء، في وداع جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة جرمانا بريف دمشق، ولتودّع دموع الحياة من قال يوماً: “يا باطل ع الرّجال اللي بتبكي”.