آدم فتحي : أطلِقُوا سراح الشاعر.. أسقِطُوا الأقنعة

9 أغسطس 2023

 آدم فتحي –  شاعر ومترجم تونسي

“دفاعًا عن الكلمة، دفاعًا عنّا”

يُساء إلى الجميع يوميًّا باسم الدفاع عن الفكرة أو الحقيقة. ونادرًا ما يرتفعُ صوتٌ خارج خطاب التحريض والتشفّي الصادر عن أناسٍ جافت أرواحهم تمامًا. لكن ما إن يُستَهدَفَ مسؤولٌ حتى تتحرّك ترسانتُهم مدجَّجةً بقوانينها ومخاوفها وإغراءاتها للدفاع عنه. في هذا السياق اتُّهِم الشاعر سامي الذيبي بالإساءة إلى الغير. وحُكِمَ عليه بثلاثة أشهر سجنًا إلى حدّ كتابة هذه السطور. والسؤال هنا: ماذا يتبقّى من حريّة التعبير إذا كان مُجَرّدُ الوصفِ سالِبًا للحريّة؟
*
قالَ سامي، لحظةَ طفحَ به الكيلُ، كلامًا يقوله الجميع بلغة الجميع. اللحظة نفسها التي حدت بنيرودا إلى الدفاع عن أهجيته المقذعة في ريتشارد نيكسون، معترفًا بأنّه كان يصرخ غضبًا ولم يكن يكتب شعرًا. هل نؤاخذ الشعراء على أنهم بشرٌ هم أيضًا، ويغضبون خارج القصيدة أحيانًا، كي لا يغضبوا داخلها؟ هل نعاقب مُنقِذًا على أنّه لم يحبّذ أن يكون شاعرًا خَلُوقًا بينما زملاؤه يغرقون؟ هل يكفي ذلك كي نخرج به من دائرة الشعراء ونزفّه إلى خرّيجي السجون؟
وهَبْ أنّه لم يكن خلاّقًا في اختيار هذه العبارة أو تلك. أليس من أبسط عناصر الحكمة الماكيافيليّة العزيزة على ساستنا، أن يتفهّم الوزراء منظوريهم حين يرفعون الصوت دفاعًا عن أعمارهم المهدورة وأحلامهم المكسورة، وأن يتفهّموا الشاعر حين يكون، هذا إذا كان، في حالة ثلبٍ دفاعًا عن النفس .

لسنا مع ثلب أحد. شرط أن نكون متساوين في الحرمة. أي شرط ألاّ نكون أرضًا مستباحة بينما المتنفّذون أرضٌ حرام. لسنا مع الإساءة إلى أحد. لكنّنا نكذب إذا قلنا إنّنا لسنا مع الهُبُوب بما نملك من كلمات على المستقوين علينا بمال أو جاه أو منصب. قد تبدو كلماتنا نابية. بل قد تكون كذلك. لكنّها كلّ ما نملك لمقاومة صمم اللحظة.
لقد عاد بنا بعض مسؤولينا (وبعض مواطنينا للأسف) إلى مُرَبَّع الانفجار والتنفيس. ماذا يمكننا أن نقول كي ننفجر ونُنفّس؟ ماذا يمكننا أن نقصد ونحن نستعير الحذاء أو الحارزة في لحظة انفجار يبحث عن متنفّس، مع احترامنا لأحذيتنا وحارزاتنا؟ إنّ الطائرة الثقافيّة في حاجة إلى قبطان؟ إن بعض المسؤولين لا يعرف كوعه من بوعه؟ إنّ دفّة الوزارة في هذه المرحلة تستحقّ خيالاً خصبًا ورؤيةً سبّاقة ومشروعًا حقيقيًّا وطاقة اقتراحيّة خلاّقة؟ حسنًا! هل ثمّة كلمة واحدة في هذا الكلام أو غيره، وهب أنّه مقذع، يمكن دحضها وتفنيدها، كي يُعتَبَر توجيهُها إلى شخص معيّنٍ انتقاصًا أو ثلبًا أو إساءة؟
*
ليس من الذكاء الوزاريّ أن يُرَدّ على مثل هذا الكلام بالعصيّ الجزائيّة والقضائيّة. ولا بالتهديد والوعيد. ولا بتحويل واجب التحفّظ إلى ضربٍ من واجب التستّر والمشاركة. عبثًا يحاول البعضُ الترسيخ لفكرة أنّ تحصيلَ الرغيف مَنُوطٌ بالتفريط في الحريّة. كلّ هذا خاضعٌ للحساب مهما أرجئ. الوزيرُ مسؤول عن منظوريه الراضي منهم والساخط. عبثًا يعوّل على النسيان. إنّه منذور غدًا إلى المشي بينهم في الأسواق. قد تُنسى الشتيمةُ وقد لا تُنسى. أمّا قطع أرزاق البعض والزجّ بالبعض الآخر في السجن فلا يمكن أن ينسى.
*
وليس من ذكاء أهل الثقافة وعموم المواطنين أيضًا، أن يتشفّوا في من دِيسَتْ حريّتُه. علينا أن ندافع عن الجميع. كلّنا معنيّون. النساء والرجال. أهل الفكر والعلم والسياسة والإعلام. الباحثون والمبدعون. أهل المسرح والسينما. أهل الرقص والموسيقى والغناء. رسّامو الغرافيتي وفنانو الشارع. فنانو الراب. علينا أن ندافع عن كلّ من يساهم بحركة أو كلمة أو حتى شهقة في زحزحة حدود المباح إلى أبعد وأعلى وأرحب. علينا أن ندافع عن كلّ ما يبدو مستفزًّا. لا علاقة لذلك بموافقة أو معارضة. باستحسان أو استهجان. باختلاف في رأي أو ائتلاف في موقف. بخصومة أو صداقة. بسبق إلى مروءة أو مبادرةٍ بخذلان. كلّ هذا سرديّات مجهريّة سرعان ما تكشف عن تفاهتها أمام الخيارات الجذريّة.علينا أن ندافع عن كلّ كلمة تمنع النوم في الحلقات المفرغة.
نحن في دفاعنا عن حريّة أحدنا إنّما ندافع عنّا جميعًا. عن حياتنا. عن حريّة الكلمة بوصفها كنايةً عن جدارتنا بالوجود. وعلينا أن نفهم أنّ تلك الحريّة أرحب صدرًا من كلّ ضغائننا وثاراتنا ومصالحنا الضيّقة وأخلاقويّاتنا العابرة وتأويلاتنا المأجورة أو الطامعة. إنّ الدفاع عن حريّة الكلمة يفتح لنا آفاقًا لا تخطر على بال. كما أنّ النيلَ منها هلاكٌ للبلاد والعباد لا يخطر على بال، أخَفُّ أضرارنا فيه أن نكون قد أُكِلنَا حقًّا يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض.
*
اِرفعوا أيديكم عن شعرائنا وكتّابنا.
ارفعوا أيديكم عن مبدعاتنا ومبدعينا.
ارفعوا أيديكم عن بنات هذا الشعب وأبنائه الأحرار.
كيف لا يخجل من يرى بناته وأبناءه ينكّل بهم، بسبب صرخاتِ غضب وصيحات إنذار، بينما قتَلَة شهدائه وسُرّاق شعبِه طلقاء؟

قد يعجبك ايضا