أسمهان وحاتم الطائي – الحلقة الثانية

29 أغسطس 2023

يوسف اليوسف – كاتب وباحث سوري

لطالما عُرف الدروز بالكرم الشديد وحسن الضيافة والشهامة كسائر الشعب السوري الواحد المعطاء على مر الأزمان وفي كل الظروف، وفي القرن الماضي أهدت سوريا لشقيقتها مصر أميرة الدروز بما حملَته من فن ساحر وجمال فاتن وكَرَم حاتَميّ، وفي هذا المقال، أردت أن أنوه عن سخاء اسمهان الأسطوري.
بعد اطلاعي على أرشيف الصحافة العربية بما يخص أسمهان لم أجد من كتبَ عن صفة السخاء التي امتلكتها اسمهان رغم تصريحات العديد من المشاهير الذين عاصروها عن شدة كَرمها، بينما نرى الصحافه العربيه تتغزل بكرَم شقيقها، الموسيقار العالمي فريد الأطرش، إلى جانب الأسطورة صباح، وهذا إجحاف بحق أسمهان، فالصحافة تلاحق الشائعات المسيئة عنها وتخفي محاسنها.
أسمهان التي عاشت ربع قرن، قدمت روحها لأرضها وقدمت مالها لشعبها والكثير الكثير لأحبائها الفنانين فكثيرا ما شدد شقيقها فريد الأطرش والشاعر أحمد رامي و المخرج يوسف وهبي وغيرهم على تحلّي اسمهان بالكَرم الشديد! في حين يذكر الإعلام فقط إسراف اسمهان في لباسها وشربها وسهراتها وهذا من حقها الطبيعي.  ثم أن مَن مَدّ يد المساعده لأسمهان وعائلتها خلال سنواتهم الاولى في مصر ومعاناتهم في ليالي الجوع والحرمان هو وحده من يستطيع محاسبتها في مالها!
تخيلوا أن أسمهان بدأت منذ سن التاسعة بالغناء في حفلات زهيدة الأجر لتعيل أسرتها، ولطالما كانت هذه الطفلة تعود إلى منزلها تحت وابل من المطر ولا تحمل من النقود ما يقلّها إلى المنزل.. تخيلوا أن هذه الأميرة الصغيرة بعد وصول أسرتها إلى مصر، و في يومٍ ما خَلَت الدار من الطعام، فأرسلتها أمها إلى الدكتور (عبد الرحمن شهبندر) أحد زعماء سوريا من اللاجئين لمصر، لتقترض منه المال، فراحت المسكينه مشيا، تشكي له حالهم وأبلغته رسالة أمها، فاعطاها جنيه واحد! عادت به إلى أمها فراحت الأم تبكي وبكت أسمهان معها.
أسمهان كانت مصدر رزق أسرتها، إذ بدأت بالغناء منذ عام 1928 وكان شقيقها فؤاد يأخذ أجرتها من الصالات و في عام 1933 وافقت أمها على تزويجها من ابن عمها الامير حسن الاطرش بعد أن تقبض مهر ابنتها (500 ليرة ذهب) وكم تفانت أسمهان في سبيل أسرتها فذات مرة في عام 1940 غنت أسمهان لأحد كبار أمراء العرب “الأمير فواز الشعلان” في فندق من فنادق مصر الجديدة فأهداها سياره قبل سفره الى بلده واستولى على السياره شقيقها فؤاد!
في (30 يوليو 1940) تفاجأت أسمهان أن أحد الأمراء العرب أرسل لها شيكاً بقيمة ( 300 جنيه ) فقالت إن المبلغ أتى من السماء لأنها كانت تحتاجه لتدفع ديونها وتشتري مستلزماتها وحين ذهابها لصرف الشيك أجبرها شقيقها فؤاد على تحويل الشيك باسمه ليصرفه ووعدها باعطائها المبلغ، فذهب ولم يعد! فراحت تبحث عنه وحينما وجدته قال لها أنا أحتاجهم أكثر منك وأنا كتبت لسمو الأمير أطلب العون وأشكو حالنا له، ثم اخرج من محفظته 5 جنيه ووضعها أمامها على الطاوله وقال لها: (لما تصرفيها اعطيك غيرها)!
أسمهان كانت تنفق مالها من كدّها في عملها الفني والسياسي، فهي التي تلقّت مبالغ استثنائية لم تعط لغيرها في مصر لقاء حفلاتها الخاصة لنخبة القوم ، كما نالت عن دورها في فيلمها الأخير (13 الف جنيه) مصري وهذا المبلغ كان أكثر من ضعف أعلى مبلغ تناله أكبر نجمة في مصر عن دور سينمائي !
وفي عام 1941 عرف فقراء بيروت مرارة الجوع وارتفعت أسعار الدقيق والقمح وكانوا يشترونه بأسعار السوق السوداء وبتاريخ يوم الاثنين 29 سبتمبر 1941 صدر مقال في جريدة (الحديث البيروتية) بعنوان: استعانت الأميرة آمال الأطرش بالله على تخصيص يوم الاثنين من كل اسبوع لتوزيع الطحين مجانا على الناس في بيتها!
و أنشأت اسمهان في نفس العام قنوات ري للمياه في محافظة السويداء على حسابها الخاص لتسهيل وصول الماء إلى البيوت والأراضي، وكان منزلها في السويداء مقصداً لكل الفقراء.. أما فريد الاطرش الذي ذاع سيطه بشدة سخائه بين الفنانين العرب كان قبل وفاه اسمهان يحظى بالمركز الثاني في الكَرَم، فكانت أسمهان تحثه باستمرار على أن يعطي أقصى ما يستطيع و أن الحياة قصيرة وسيعود عليه الخير أضعافاً وكان فريد كثيرا ما يلومها على شده إسرافها ويحذرها من يوم لا تجد فيه قرشا تملكه، ولم تكن تبالي. فقد كانت تشعر بدنوّ أجلها ولا تحسب حساب غد.
ويروي فريد عن أسمهان في مذكراته عام 1953 إنهما و ذات مرة كانا يمشيان في أحد شوارع مصر وصادفا سائلا يطلب إحساناً ففتحت أسمهان حقيبتها ولم تجد بها سوى أوراق مالية من فئه الخمس جنيهات وأخرجت ورقه منها وقالت للمتسول خذ نصيبك…
ويروي فريد ايضا في مذكراته إنهم وحينما كانوا يسكنون في حي (جاردن سيتي) في مصر كانت أسمهان صغيرة، وأعطاها فريد مبلغ (10 جنيه) وهو قيمه آجار الشقه التي كانوا يسكنوها كي تعطيها للوكيل صاحب العمارة وتأخذ منه أيصالا، لكنها اعطت المبلغ لإحدى صديقات الأسرة وهي زوجه صيدلي معروف زارت بيتهم في الصباح تطلب رؤية والدتها لتقترض منها مبلغ 10 جنيه لتنقذ سمعه زوجها.
ويروي الفنان المصري “محمد عبد المطلب” إنه كان جالسا ذات مرة في أحد مقاهي شارع عماد الدين يسال الله كيف سيشتري العشاء ليلتها فوقفت أمامه سيارة نزلت منها أسمهان ألقت عليه التحية وأعطته مبلغا من المال بدون موعد وبدون أن تسأله عن ظروفه!
أما الشاعر أحمد رامي فيقول كانت أسمهان تتواجد في أفخم الاماكن وتدفع دوماً مبالغ باهظة عن المتواجدين معها ولا تسمح لهم أن يدفعوا جنيه واحد مهما كان عددهم!
ووصل كرم أسمهان الى حد يتسبب بطلاقها من أحمد بدرخان ففي أحد أيام عام 1941 وصل بدرخان إلى المنزل ليتفاجأ بوجود 15 صندوق هدايا اشترتها له أسمهان، منهم صندوق كرافاتات وصندوق قمصان وصندوق سترات وصندوق أحذية وغيره، فجن جنونه ولم يقبلهم منها وكان يشعر بالنقص أمامها وقال: (انا الراجل وانا اللي اجيب لك مش انت تجيبي لي)… و احتدت المعركة بينهما واستمرت ثلاث ساعات وتم الطلاق مباشرة وكان من الشهود على الطلاق الأستاذ حسن أمام عمر وهو من روى القصة.
كانت أسمهان طيبة القلب جدا ولا تعني لها النقود شيء وكان من السهل استغلالها ، فكان أحد التجار الكبار في لبنان يملك شركة كبيرة للاستيراد والتصدير بدأ يتقرب هو وزوجته من أسمهان وأصبحت زوجته صديقتها فتنظم لها الحفلات وتستقبل لها الضيوف، ثم فاتحها بموضوع فتح شركة بينهما برأس مال (100 الف جنيه) ووعدها أن لا تدفع منهم شيء مقابل أن تتوسط له عند الجنرال كاترو للسماح له بأمور تجارية، لكنها لم تكتب معه عقد الشراكة ولم تر منه جنيها واحدا!
كان كبار التجار والزعماء في سوريا ولبنان يقصدونها لتحل لهم أمورهم مع السلطات الفرنسية فالجنرال كاترو كان يحبها كابنته، وكان يلقبها السيده الأولى في البلاد، وكانوا يعدونها بمبالغ لو أنها حلت لهم مسائلهم معه ولكن قلما وفى بوعده لها! وذات مره خدعها أحد الصحفيين وأوهمها بتأسيس صحيفة يومية راس مالها 2000 جنيه فطلبت أن تشترك معه بنسبه النصف ودفعت له 1000 جنيه وصدرت الجريدة لمده أسبوعين فقط… ولكن أحد أثرياء لبنان الأوفياء قدم لها قصراً في لبنان يُدعى إلى الآن (قصر اسمهان)، لقاء خدمتها الكبيرة له فتواسطت له عند الفرنسيين بمرور سفينه تحمل له بضائع تنفعه بمبالغ باهظة ولكنها لم تقبل هديته الثمينة ورفضت أن تسكن ذلك القصر!
كما عاشت أسمهان حياه البذخ في فندق (صوفر) في لبنان وكان اسمه (جراند اوتيل) ومعها عشرات الحراس المسلحين بخناجر الذهب والفضة الذين كانوا يقفون عندما تمر أسمهان من أمامهم، وذات مرة أقامت في نفس المكان حفلة ساهرة لبعض المصيفين المصريين في لبنان على حسابها بمبلغ 1000 جنيه…
قُتلت اسمهان وتركت خلفها كنوزا ثمينة من أموال ومقتنيات وأغنيات و صور وأفلام تاجر الجميع بها و لم يكترثوا لأهمية اسم أسمهان الذي باعوه أيضا كما باعوا دمائها.
قد يعجبك ايضا