4 يوليو 2023
وسام كنعان-دمشق
«كلّما نال شھرة أكبر، وكسب أمولاً أكثر، يصبح أسيراً أكثر. إنه يخضع لانضباط عسكري صارم، ويعاني كل يوم عقوبة التدريب القاسية، ويخضع لقصف المسكنات وتسلل الكورتيزون الذي يُنسيه الألم ويزّيف حقيقة حالته الصحية. وعشية المباريات المھمة يحبسونه في معسكر اعتقال حيث يقوم بأعمال شاقة، ويأكل أطعمة غبية، ويسكر بالماء وحده، وينام وحيداً. في المھن الإنسانية الأخرى يأتي الغروب مع الشيخوخة، أما لاعب كرة القدم، فقد يشيخ وھو في الثلاثين من عمره. لأن العضلات تتعب باكراً. وعندئذ تسمع من يشير إليه قائلاً: هذا لن يسجّل هدفاً في ملعب يميل نزولاً، هذا لن يسجّل هدفاً حتى ولو قيّدوا له يدي حارس المرمى! وقد يشيخ لاعب الكرة قبل الثلاثين أيضاً، إذا ما أفقدته ضربة صوابه، أو مزق سوء الحظ إحدى عضلاته ليكتشف في صباح يوم مشؤوم أنه قامر بحياته وأن المال قد تبخّر ومعه الشهرة!
الشهرة سيدة محترمة مراوغة لم تترك حتى رسالة عزاء صغيرة!!»
بهذه الطريقة المتدفقة، والأسلوب الموغل في البلاغة يصف الكاتب الأورغوياني إدواردو غاليانو، لاعب كرة القدم وطريقة حياته في كتابه: «كرة القدم في الشمس والظل» (ترجمة صالح علماني) المترجم الفلسطيني السوري كرّس حياته لنقل أمهات الأدب العالمي، وتحديداً من أمريكا اللاتينية إلى اللغة العربية، وبطريقة لمّاحة وذكية توازي ابتكار وإلهام التأليف، من خلال صوغ الحالة الروائية بطريقة تنسجم مع اللغة العربية وصورها وتشبيهاتها وخصوصيتها المفرطة!
والكتاب يبدو من أهم من الصيغ الأدبية المرجعية التي حكت عن كرّة القدم ونسجت العلاقة العاطفية معها بلغة أدبية رفيعة.
وفيه يعترف الرجل بدون مواربة عن حلمه بأن يكون لاعباً : «لقد رغبت مثل جميع الأورغوايين في أن أصبح لاعب كرة قدم، وقد كنت ألعب جيداً، كنتُ رائعاً، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي: أما في النھار فأنا أسوأ قدم متخشبة شھدتھا ملاعب الأحياء في بلادي. لقد مرت السنوات، ومع مرور الوقت انتھيت إلى القناعة بھويتي: فأنا مجرد متسوّل أطلب كرة قدم جيدة. أمضي عبر العالم حاملاً قبعتي، وأتوسّل في الاستادات: لعبة جميلة حباً بالرب! وعندما أرى كرة قدم جيدة، أحمد ھذه المعجزة دون أن يھمني قدر فجلة من ھو النادي أو البلد الذي قدم ذلك اللعب الجيد»
فيما ينفرد بوصف موغل بالعمق لحال الملاعب قبل أن يغزوها الجمهور ويمتلئ بالصخب والفرح والتباينات المذهلة، وبعدما يغادرها كيف تصبح أوقاته مثل ليل أرملة وحيدة مات زوجها بعزّ شبابه، وانفضّ أولادها عنها في زواريب الحياة بحثاً عن فرص موعودة بعيداً عن بيت العائلة!
شرح إشكالية العلاقة بين الجمهور واللاعب ومنطق عشقه للكرة كأنها حبيبته التي يبادلها الغرام
في حين يفرد مساحات كبيرة لينجز رفعة أدبية ملفتة تسير بخطوط متوازية مع منطق لعب الكرة، ولكن وفق ترجمة أدبية، وإعادة تدوير بلاغي يخصّ الكاتب دون غيره إذ يحكي عن أسلوب اللعب ومسيرة اللاعب خاصة أن غالبية نجوم الكرة قدموا من الفقر الساحق والأحياء الفقيرة. يقول : «وفي يوم ميمون تقبّل ربة الريح قدم الرجل، القدم المُذَلة، المُھَانة، ومن ھذه القبلة يولد المعبود في كرة القدم . يولد في مھد من القش وفي كوخ من الصفيح ويأتي إلى الدنيا محتضناً الكرة. إنه يعرف اللعب منذ أن يبدأ المشي. ففي سنواته المبكرة يُبھج المراعي، يلعب ويلعب في مجاھل الضواحي الھامشية إلى أن يخيم الليل ولا يعود قادراً على رؤية الكرة، وفي سنوات شبابه يطير ويُطيِّر في الاستادات. فنونه البھلوانية تجتذب الحشود، أحداً بعد أحدٍ من كل أسبوع، ويتنقل من فوز إلى فوز» ليستطرد في شرح إشكالية العلاقة بين الجمهور واللاعب ومنطق عشقه للكرة كأنها حبيبته التي يبادلها الغرام فيقول : «ومن تصفيق حماسي إلى آخر، الكرة تبحث عنه، تتعرف عليه، تحتاج إليه… على صدر قدمه تستريح وتتأرجح، إنه يُخرج منھا الألق و يجعلھا تتكلم، وفي ھذا الحديث بين اثنين يتحدث ملايين البكم، المجھولون، المحكومون بأن يكونوا مجھولين دائماً، يمكنھم أن يشعروا بأنھم أحد ما للحظة، بفعل وظرافة ھذه التمريرات المعادة بدقة (..) الكرة تضحك مشرقة في الھواء فينزلھا ھو، ينوّمھا، يغازلھا، يراقصھا، وحين يرى محبوه ھذه الأشياء التي لم يُرَ لھا مثيل، يشفقون على أحفادھم الذين لم يولدوا بعد لأنھم لم يروھا، ولكن المعبود يبقى معبوداً لبرھة وحسب، أبدية بشرية، شيء لا يُذكر، فعندما تحين ساعة النحس للقدم الذھبية، يكون النجم قد أنھى رحلته من الوميض إلى الانطفاء يكون قد تحول إلى ھذا الجسد الذي يضم رقعاً أكثر من بدلة مھرج، ويصبح الأكروباتي مشلولاً«
يبدو غاليانو في كتابه الشهير وكأنه أراد ترجمة فلسلفة كرّة القدم وصورها العامرة بالسحر إلى لغة أدبية ومقترح حكائي يوازي بجماله دهشة اللعبة وتصاعدها الدرامي الذي يحبس الأنفاس كما أنه كان الأكثر براعة على الغوص عميقاً في طريقة تفكير الجمهور وأسلوب زحفه المتلاحق إلى المدرّجات، ويقبض بإحكام على المنطق المعتم الذي يسطو عل الملاعب بعد خلّوها من جماهيرها وفوات وقت اللعبة!