إلياس الرحباني، الكوميديان الخائب

 

جمال سامي عواد – كاتب وباحث سوري

في عام 1941، أي بعد 3 سنوات من مولده، و من نوافذ مدرسة الراهبات في قرية انطلياس، تهادت إلى مسامع الطفل إلياس الرحباني، نغمات موسيقا “عتاب الحب” و “أمواج فضية”، و الكثير من رومانسيات ذلك العصر،  بدون أن يعرف ما يسمعه بالضبط. ما دفعه إلى تكرار تجربة الاستماع من مكانه هذا، فتغلغلت تلك الموسيقا في لاشعوره ممزوجة مع خيالاته أثناء لعبه بالحصى البحرية التي كان عاصي يجلبها له خصيصاً من الشاطئ.  و لكن تلك الهدايا (الحصى البحرية) كبرت فيما بعد، و أصبحت بيانو، و بذلك قدم الأخوان رحباني عطاءً إضافياً للموسيقا العربية، و بالأخص عندما لم يكتفيا بتوفير البيانو فقط، بل قاما أيضاً بجلب أفضل الأساتذة لتعليمه الموسيقا، و بتدريسه في المعاهد الموسيقية المتخصصة لمدة 14 عاماً.

الميل للضحك و إلقاء النكات، كانت صفات واضحة فيه، لدرجة أن أحد أهم أحلامه كان إنشاء مطعم مبني من الخشب، يعزف فيه البيانو للزبائن، ويلقي عليهم الطرائف والنكات، فالضحك برأيه يساوي الموسيقا.

في هذه البيئة، تفجرت ينابع الإبداع عند واحدٍ من أهم الموسيقيين العرب المؤسسين للموسيقا الفرانكوفونية، بالرغم من الصعوبة البالغة في شق طريقه الخاص بين أخوين عملاقين كعاصي و منصور. بدأ بإنتاج الموسيقا في حوالي الـ19 من عمره، فكان اللحن الأول له أغنية “ما أحلاها”لنصري شمس الدين. ثم عدداً من الأغاني قال عنها هو أنها ” بوليرو على رحباني” . و على ما يبدو أنه اختار في هذه السن طريقه الموسيقي الذي ركز على الموسيقا الغربية و الشرقية القريبة منها (فرانكو أراب) التي انطلقت مع النجاح الهائل لأغنية “هالي يابا” لصباح، و ساهمت صباح في ترسيخ ذكره لوحده بمعزل عن عاصي و منصور. إلا أن ذلك لم يمنع من نقاط تلاقي كثيرة بينهم، فكانت أغنية “ميلوا علينا” لصباح من مسرحية “دواليب الهوى” هي التماس الأول بين الإخوة الثلاثة في عمل مسرحي. تابع الياس أعماله الأجنبية، فتعاون مع المطرب الأرمني اللبناني مانويل، و لحن لمطربين فرنسيين مثل نويل فريمون، مايا كازابلانكا، فريدا بوكارا و غيرهم.

وقد اتسمت أعماله الغربية ببساطة ثيماتها و تلوينها بروحه الشرقية، بينما تميزت أعماله الشرقية بمعظمها بالحركة الرومانسية الفرنسية، مع تلوينات مقامية و إيقاعية شرقية بسيطة كما هو الحال في أغنية وديع “يا قمر الدار” ، بيني و بينك يهالليل”، كنا نتلاقى”. و لم يستخدم المقام الشرقي الخالص بكثرة، باستثناء بعض الأعمال مثل حوارية ” عوافي يا زهية”. في الموسيقا البحتة استخدم النوتات الطويلة الهادئة بتوزيع عبقري، و بدون أي استعراض أو حركات لتحدي الموسيقيين الآخرين.

نقطة اللقاء الثانية مع الأخوين رحباني كانت في سنة 1968 بأغنية “الأوضة المنسية”، و لحن في مسرحية الشخص ” بالنجمة وعدتك و نسيت”. ثم مشاركة متواضعة في “جبال الصوان”، و آنذاك كان  قد فاز لتوه بالجائزة الثانية في أولمبياد أثينا للأغنية الخفيفة بأغنية ” انتهت الحرب”، مما زاد من صعوده، و خفف من حدة المعارضة للأغنية الفرانكوفونية.

استمر في ترسيخ لونه الخاص بالتوازي مع تلحين الإعلانات التجارية التي شكلت مصدراً مهماً لموارده المالية، و قد نجح بذلك كثيراً لدرجة أن إعلاناته ساعدت على انتشار و استمرارية البضائع موضوع الإعلانات لسنوات في الأسواق العربية. و كان يعتمد تلحينها أيضاً على بساطة الكلمة و اللحن باستخدام الأورغ الكهربائي و تآلفات الكيتار الكهربائي مع الإيقاع الراقص.

تجدد اللقاء مع الأخوين رحباني في مطلع السبعينيات مع مسرحية “ناس من ورق” حيث لحن عدداً من أغانيها. ولكنه قدم بعد ذلك مسرحيته “أيام الصيف” منفرداً، لحن فيها ألحاناً ناجحة جداً مثل “بيني وبينك يا هالليل”، “عَ ضوّ القمر” لهدى حداد، و”نطرني عالشباك” لجورجيت الصايغ، و”تحت الشباك” لمروان محفوظ.

بعد مرض عاصي الرحباني توسعت الشراكة مع الأخوين رحباني، فلحن لفيروز حنا السكران، طير الوروار، كان عنا طاحون، كنا نتلاقى، يا بنية يا زغيرة، و ذلك في مسرحيات: المحطة، قصيدة حب، لولو، ميس الريم، بترا على التوالي. و وزع عدداً من الأغاني في تلك المسرحيات و لحن بعض المقدمات و الحوارات الغنائية و الرقصات.

لحن الياس لعدد هائل من المطربين تنوعوا بشدة من حيث المستوى، فبالإضافة لألحانه لفيروز، لحن لوديع  و نصري، صباح، هدى حداد، مروان محفوظ، ملحم بركات، سلوى قطريب، رونزا، سامي كلارك، و صولاً إلى ألحانه لفرقة FOUR CATS و هيفاء وهبي. و انتشرت ألحانه بالرغم من ضعف المطرب أحياناً. و قد انتقده البعض بسبب ذلك.

في مجال السينما لحن الياس موسيقا تصويرية و ألحان لما يقارب ال25 فيلماً سينمائياً لأشهر الفنانين العرب، مثل فيلم “هذا أحبه و هذا أريده ” مع هاني شاكر، “فندق الأحلام” مع دريد لحام و نهاد قلعي، “دمي و دموعي و ابتسامتي”، “حبيبتي” لنجلاء فتحي و حسين فهمي، “من بلا خطيئة” لناهد شريف و سمير صبري و الكثير غيرها. و كانت الموسيقا في كل تلك الأفلام تترواح بين الرومانسي و الراقص، غير أن الأعمال الأشهر هي الأعمال الرومانسية التي تكرر بعضها في المسلسلات التلفزيونية فيما بعد، ثم صدرت بأليومات منفصلة ما زالت حتى اليوم مسموعة بشدة.

أما للتلفزيون فهناك كماً كبيراً من المسلسلات التي لحن لها الموسيقا التصويرية والأغاني والشارات، كتلك السلسلة الرومانسية الشهيرة لعبد المجيد مجذوب وهند أبي اللمع منها مسلسل “ألو حياتي”، “لا تقولي وداعاً”، “عازف الليل”، “ديالا” و غيرها.
الكاتب و الأديب لم تقتصر موهبة الياس على التأليف الموسيقي، بل طالت الشعر و النثر و المسرحيات و الأغاني، فقد كتب الجزء الأكبر من أغانيه بالعربية و الفرنسية و الإنكليزية و الطليانية، و له مؤلفات ترجمت للفرنسية مثل “نافذة العمر” و الذئاب تصلي”، و كتب سيناريوهات لعدد من المسرحيات و الأوبريتات مثل  أوبريت “أيام الصيف” 1972، و “وادي شمسين لصباح” 1983 و “جوهرة الأندلس” 2007  و  “إيلا” 2009  مع السورية عبير نعمة.

في الرابع من شهر كانون الثاني عام 2021 غابت ضحكته الرنانة ونكاته الطريفة، وصوته الرخيم المميز العميق، بسبب إصابته بفايروس الكورونا، وتوفي تاركاً لنا كنزاً هائلاً من الإبداعات، منها ما ضاع، و منها ما بقي حبيس مخيلته المبدعة.

 

قد يعجبك ايضا