24 أغسطس 2023
عمر غبرا – كاتب وروائي سوري
رِفعةُ الأدبِ تكمن في صلاحيته لكلِّ زمان، وأنّ صوته يبقى على وتيرةٍ واحدة، فإذا غاب عن سمعنا لمدة فإن العيبَ في تلقينا وفهمِنا. وهذا ما وجدته في رواية الآباء والبنون المنشورة في أواسط القرن التاسع عشر للأديب الروسي إيفان تورغينيف.
وقد كانت روايةً شائكة أيامَ صدورها والتبسَ على القرّاء تفسيرها، فتناولوها بالآراء المتناقضةِ غير المنصفة، ومازالت حتى يومنا هذا تحتملُ العديدَ من التفسيرات حسبما أشار لذلك النقاد على توالي السنين. وقد شهد تورغينيف نفسه على ذلك التناقض بالآراء إذ يقول في إحدى رسائله لفيدور دوستويفسكي ضمن مراسلاتهما الصادرة عن دار الرافدين ليرد على ثناء دوستويفسكي على الآباء والنون: ” نصحوني بجديّة بإلقاء عملي إلى النار، وقبل أيامٍ قليلة كتب لي بيسيمسكي أنّ شخصيّة بازاروف غير موفقة تماماً.
فكيف تريدون ألّا يخامركم الشك وألا تحتارون هنا؟ ثم يضيف في رسالةٍ أخرى: فباستثنائكم أنتم وبوتكين، يبدو أنه لم يتعب أحدٌ نفسه في فهم ما أردت القيام به. إنّ بازاروف هذا بشخصيته المعقدة والمثيرة للتساؤلات ونزعته العدمية كان محورَ الرواية كما هو محورَ الخلاف عليها، فقد تعرض تورغيينيف لمضايقاتٍ عديدة بسبب خلقّه لهذه الشخصية غير المباليّة حسب تفسير القرّاء لها، فنال على إثرها إتهاماتٍ بإهانة جيل الشباب الروسي بأكمله من خلال تمثيله لهذا الجيل بشخصية بازاروف وتصويره بهذا الشكل الأناني وغير المبالي وأن بيده هلاكُ روسيا بما يحمل في رأسه من فلسفةٍ عدميّة يضيعُ بها أي معنى للشرف والأخلاقِ والفضيلة.
فقد كان بازاروف ينكرُ كُلَّ فكرةٍ يقوم عليها المجتمع الإنساني مثل الأخلاق والمشاعر والصدق. والحقيقة أن هذه الشخصية لم يتم التمهيد لها في النص الروائي بشكلٍ يستطيعُ من خلاله القارئ أن يفهمَ غاية الروائي منها دون أن يلتبس عليه وقد تمَّ إيضاح كوامنَها من خلال الحوارات الكثيرة بعيداً عن الإسلوب السردي الذي من خلاله تكون آراءُ الكاتبِ بشخصياته أكثرَ وضوحاً فكانت معتقدات بازاروف تُساقُ على لسانه ضمن حواراته مع بقية الشخوص الروائية مع سردٍ شحيحٍ تكلّفه الراوي فيما يخصُّ بازاروف على وجه الخصوص. فخلقَ هذا التقشُف بالسردِ شيئاً من الضباب حول الشخصية منعت القرّاء من رؤية أبعادها واستبيانِ موقفِ الكاتب منها. وقد وقعت في الحيرةِ ذاتها عند قرائتي للنص فكان الإنطباع الأول أن تورغينيف ناقمٌ على الظواهر الجديدة في مجتمعه ويريدُ أن يُظهِرَ نقمته هذه من خلال بازاروف. فالمجتمع الروسي في تلك الآونة كان متذبذباً وغير مستقر، تعتريه التقلبات النفسيّة والعقائديّة والأخلاقيّة وأيضاً تقلبات في التشريعات القانونيّة.
لكنّ فهم القارئ لشخصية الكاتب يساعده على فهم المعاني بشكلٍ أعمقَ وأكثرَ دقةً. فتورغينيف هو من روّاد التغيير في المجتمع الروسي. ويدرك الإنفعالات التي تترتب على فعل التغيير فإن لم يكن لشخوص الآباء والبنون جذورُ ضاربة في عمق النص فإنَّ للكاتب جذورٌ متفرعة في عمق المشهد الثقافي والإجتماعي آنذاك. فمجموعته القصصية المعنونة بمذكرات صياد والصادرة عام 1852 أي قبل الآباء والبنون بعقد كامل، كانت احتجاجاً على النُظم القمعية في معاملة الفلاحين، فأرخت وأظهرت حجم الظلم والقسوة الكبيرين اللذان يحيطان بالأقنان آنذاك.
وأثرت هذه المجموعة القصصية بشكلٍ من الأشكال في وضع أنظمةٍ متقدمةٍ لمعاملة الأقنان فيما بعد. فهذا تورغينيف البرجوازي الكسول كما كان يلقب نفسه، ثائرٌ وباحثٌ عن التغيير ويقفُ من النمط الروسي القديم موقفَ الإحترام ولكن ليس موقف الالتزام. وبازاروف حسبَ شخصيته النهلستية المتقدمة يتصارع مع إرثِ آبائه بشكلٍ جاحدٍ خالٍ من العرفان، وهذا الصراع الذي يتكرر بين الجيل والذي يليه، بين الأفكار الشائخة والأفكار الشابة النضرة يكونُ بطبيعته صراعاً قاسياً فأراد تورغينيف أن يظهرَ مدى تعاطفه مع كلا الطرفين. فلم تكُن النهلستية “العدمية” هي المعتقد الذي أرادَ تورغينيف نقده بشكلٍ حتمي إنما أراد الإضاءة على الحالة النفسيّة الجافة والخشنة التي تلازم معتقديها بدافعِ الشفقة عليهم. وكذلك كانت الشفقة على الآباء هي المحرّك للنص. الآباء الذين بذلوا حياتهم لتربية أبنائهم على معتقدٍ ما وقدموا كل ما باستطاعتهم كيلا ينقطع الحبل الذي يجمعهم مع الأبناء.
إنّه نضال الآباء المرير لكيلا ينفصلوا عن أبنائهم، ونضال الأبناء وتضحياتهم البالغة في سعيهم نحو التغيير. تحمّل بازارواف أعنفَ الآلام في دفاعه عمّا يعتقد، لقد انتعلَ قلبه وراح يدوسه في كُلِّ خطوة يخطيها. قبلَ على نفسه أن ينسلخَ عن مجتمعه وأن يقفَ موقفَ المحاذرِ من العاطفةِ ولم يُعط للأخلاقِ أي معنى لكنّه في الختام لقي حتفه في سبيل الخير. فكان تمثيل تورغينيف للشباب الروسي بشخصيّة بازاروف هو بذاته أعظم تقدير لهذا الجيل الشاب وإقراراً بمعاناتهم دونَ إضمار أي إهانة. وكأن بي الآن أرى تورغينيف يمسحُ على وجه بازاروف ويبكي فراقه.