29 سبتمبر 2023
“نص خبر”- رصد
تختنق البندقيّة، المدينة النّابضة بالحياة في شمال إيطاليا والمتميّزة بفنّها وهندستها المعماريّة الّتي أدرَجَتها على قائمة اليونيسكو للتّراث العالميّ، باكتظاظ زوّارها الّذين يصل عددهم إلى 20 مليون زائر كلّ عام.
السّياحة الجماعيّة في البندقيّة تترك ذكريات جميلة لمَن يزورونها للسّياحة، لكنّها في المقابل تترك قلقاً لدى سكّان المدينة الّذين يعتبرون هذه السّياحة الجماعيّة غير مستدامة.
نتيجةً لذلك، تقرّر في وقت سابق فرض رسوم قدرها 5 يورو (4.31 جنيه إسترليني) على المتنزّهين النّهاريّين ابتداءً من عام 2024، بهدف إدارة تدفّق الزّوّار إلى المدينة وحمايتها من السّياحة الجماعيّة، حسبما وصف عمدة المدينة. وستُفرَض هذه الرّسوم خلال الثّلاثين يوماً الأكثر ازدحاماً في فصلَي الرّبيع والصّيف بشكل خاصّ. وسَبَقت هذه السّياسةَ سياسةُ مَنْع السّفن السّياحيّة من دخول بحيرة البندقيّة الهشّة عام 2021. وتمّ فرض هاتَين السّياستَين كمحاولة لحلّ معضلة عدم استدامة السّياحة في مدينة البندقيّة، فحوالى 80 % من سيّاحها يزورونها فقط في وقت النّهار. وبحسب الأبحاث، فإنّ هذه النسبة المرتفعة من المتنزّهين النّهاريّين الّذين ينفق أغلبهم القليل من المال، تضرّ بالوجهة السّياحيّة.
لذا، اعتباراً من العام المقبل، سيتعيّن على جميع المسافرين إلى البندقيّة تسجيل زيارتهم مسبقاً والحصول على رمز الاستجابة السّريعة عبر الإنترنت، وستُفرَض غرامة ماليّة تصل إلى 300 يورو أي 261 جنيهاً استرلينياً. كما سيتعيّن على المتنزّهين النهاريّين دفع الرّسوم، أمّا الأشخاص الّذين سيبقون حتّى اللّيل فيُعفَون منها. وهناك استثناءات أخرى تشمل الأطفال دون سنّ الـ 14 عامًا، وكذلك الأشخاص الذين يسافرون إلى المدينة للعمل والدّراسة، أو لزيارة أفراد الأسرة. ولتنفيذ هذه السياسة، ستقوم الشّرطة البلديّة والمفتّشون بعمليّات تفتيش عشوائيّة.
ولكنّ البعض أعربوا عن شكوكهم حول ما إذا كانت الّرسوم البالغة 5 يورو فقط ستكون كفيلة بثني السّياح عن القدوم إلى البندقيّة. فهذه الرّسوم هي أقلّ بكثير من “رسوم التّنمية المستدامة” الّتي تمّ تخفيضها أخّيراً في بوتان، والّتي تبلغ 100 دولار أميركيّ، أي 82 جنيهاً إسترلينياً في اللّيلة الواحدة وتنطبق على جميع السّياح، وتمّ تقديمها لتشجيع السّياحة “عالية القيمة ومنخفضة التّأثير”. كذلك ما لا يضمن نجاح الاستراتيجيّة الّتي ستُتَّبع في البندقيّة، هو ما أثبتته الأبحاث، عن أنّ استراتيجيّات إقناع السّياح بالقدوم في أوقات أقلّ ازدحاماً تؤدّي في الواقع إلى زيادة الطّلب الإجماليّ.
“رهاب السّياحة”، هو حالة سكّان البندقيّة الّذين أصبحوا يخافون من ازدحام السّياحة، الّذي يسبّب لهم الإزعاج ويعرقل حياتهم اليوميّة. هذا الأمر خلق عند كثيرين “متلازمة البندقيّة” الّتي دفعتهم إلى مغادرة هذه المدينة، حيث أنّ عدد سكّان البندقيّة الّذي كان يبلغ 175 ألف نسمة، انخفض اليوم إلى 50 ألف نسمة، وهو في انخفاض مستمرّ. وهنالك تخوّف من أن تتوقّف البندقيّة عن كونها مدينة قابلة للمعيشة في حال انخفاض عدد السّكّان إلى أقلّ من 40 ألفاً. هذا الخطر دفع كثيرين في السّابق إلى الاحتجاج، من خلال “جنازة البندقيّة” عام 2009، وهي جنازة وهميّة أُقيمت حداداً على الانخفاض الكبير في عدد السّكّان، و “مرحباً بكم في فينيسيا لاند” عام 2010، الّتي هدفت إلى إيصال فكرة أنّ البندقيّة أصبحت أكثر من مجرّد متنزه ترفيهيّ.
ولكن الضّرائب السّياحيّة ليست ذات فعاليّة مضمونة، فبحسب الدّراسات، من الأفضل الجمع بين التّدابير الاقتصاديّة المحدّدة، مثل الرّسوم والتّسعير المتغيّر، والسّياسات غير الاقتصاديّة مثل تثقيف الزّوّار، لكنّ هذه الخطّة يجب أن تُرسَم لكلّ وجهة سياحيّة حسب ما يناسبها، إذ يحدّد تقرير منظّمة السّياحة العالميّة حول السّياحة المفرطة، 11 استراتيجيّة مختلفة و 68 إجراءً لإدارة نموّ الزّوّار في الوجهات الحضريّة.
وفي إطار متصل، برشلونة هي نموذج عن المدينة الّتي حقّقت تقدّماً في معالجة السّياحة الجماعيّة، بفضل اعتماد نهج متعمّد ومستهدِف جدّاً. فقد استخدمت برشلونة التكنولوجيا الجديدة لتطوير نظام إدارة يعتمد على البيانات للتّحكّم بعدد الزّوّار، كما تعاملت بشكل متعمّد وتفاعلت مع الجمهور عند اختيار السّياسات، فتوصّلت إلى استراتيجيات محدّدة، مثل الحدّ من عدد متاجر الهدايا التّذكاريّة الجديدة كونها من أكثر ما يجذب السّياح. ونجحت برشلونة بالتّخفيف من اكتظاظ السّياح بفضل هذه الاستراتيجيّات، من دون فرض أيّ رسوم على الزّائرين.
إذاً، البندقيّة هي أوّل مدينة في العالم تتّخذ هذه الإجراءات لتنظيم السّياحة فيها، الأمر الّذي سيجعل مدينة الجسور والمياه، محطّ أنظار المواقع الأخرى الّتي تعاني من السّياحة الجماعيّة، والّتي ستترقّب ما إذا كانت هذه الخطوة الجديدة والجريئة ستأتي بنتيجة إيجابيّة وناجحة.