إنفجار في مدينة الملائكة!

25 يونيو 2023 

وسام كنعان- دمشق

لم يكن آدم يعرف أن الطريق التي يسلكها يومياً نحو الساحة العامة لقريته ستخبئ له مصادفات مذهلة في ذلك الصباح الاستثنائي. وكأن القدر لاذ بأحد المفارق المؤدية إلى الساحة العامة، وقرر أن يغيّر له شكل تعاطيه مع الحياة انطلاقاً من صباحه الموشّح بالضباب. آدم شاب وسيم في عز إشراقة شبابه. كان يعنيه صوت التذكير قبيل آذان الفجر، وكان يتخذ قراراً يومياً بأن يعبّ جرعة أوكسجين مفرطة بعد مسير يومي يقوم به، عساه يحارب من خلاله الأرق الليلي الذي يلاحقه منذ زمن.

لكنّه في ذلك الصباح وبينما كان يتأمل التفاصيل التي يشاهدها بشكل يومي، ووجوه اليافعين، وهم يشعلون من مخلفات القمامة ناراً  يقيهم من شر البرد القارس في تلك القرية السهلية الجافة، وينتظرون حافلات تنقلهم إلى مشاتل الورد التي تسيّج القرية، والتي يعمل غالبية يافعي البلدة بها. لم يمض وقت طويل حتى اندلعت المفاجأة من بين الضباب. تسمّر آدام، وكأنه أمام  سحر رباني، ساعدته الظروف والأحوال الجوية والضباب المتشكّل على تحقيق مفعوله بأقصى درجاته. السحر كان عبارة عن فتاة شقّت صدر الضباب بقامتها البهية، وهيأتها الملفتة.

فتاة ثلاثينة حنطية اللون طولها متوسّط، ذات مظهر محافظ نسبياً، لكنه مشغول بلمسة أناقة عصرية, لم تفقدها طلّتها المحافظة شيئاً من جمالها أو أنوثتها المفرطة، والتي بدا واضحاً، وهي تقترب أنها تساير مجتمعها على مستوى الشكل بينما تتقد عينيها طموحاً وألقاً وأملاً وتمرداً ورغبة في الحياة. تسمّرت عقارب الزمن بالنسبة لآدم ومرت الثواني بمثابة حياة مكتملة وهو يثبّت نظره كنسر زاعق على فريسته، دون أن ينتبه لفمه المفتوح دهشة يبتلع رذاذ العطر الذي طغى على روحه، وكأنه يشتم رائحتها عن بعد.

مرّ آدم من قرب فتاته ومن دون أن تنتبه صبّح عليها بطريقته المخالفة أصلا لقواعد المكان الذي ينتميان إليه فزادته تخديراً عندما ردّت عليه التحية مصحوبة بابتسامة تشرّد القمر. كان يسأل نفسه إن كان يمكن له العودة وافتتاح حديثاً معها. لكنّ لأنه اعتقد جازماً بأن الخطوة ستصّدره شخصاً تقليدياً تصادف مشابها له يومياً. المدة الزمنية القصيرة كانت كفيلة بأن تصنع منه عاشقاً هرماً أمضى تفاصيل عمره بالحب. سيزاول آدم المشي في التوقيت ذاته يومياً ليلتقي بفتاة أحلامه.

ذات مرّة قرر أن يركب الميكرو باص الذي يقّلها إلى المدينة،  وأقنعها على الطريق بأن يشربا فنجان قهوة يحدّثها خلاله عما يجول في خاطره. أثناء مسيرهما ستتعرّض الفتاة التي لم يعرف اسمها لحادثة بسيطة تعكّر مزاجها، وتجعلها تلغي موعدها معه دون أن يعرف عنها أيّة معلومات. في اليوم ذاته سيصفها لأخته ليعرف أنها طبيبة تنهي دراسة الاختصاص في إحدى مشافي المدينة. سيلف آدم يومها على جميع المشافي وكأنه يبحث عن مفقود، فيما كان يبحث حقيقة عن نصفه الضائع الذي غيّر مجرى حياته. أخيراً بعد جهد كبير سيعرف طريق فتاته في مشفى التوليد تجيب عليه من قسم المخاض، ليخبرها بأنه الشاب الذي ألقى عليها السلام قبل أيام وأراد اصطحابها في الصباح، تخبره أنها في طريقها إليه يطلب مهلة نصف ساعة يخرج عدواً من المشفى إلى أول بائع ورد يحمل لها وروداً يمضيها بقصيدة لمحمود درويش: “سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح” دون أن يعرف بأن درويش كتبها لأمه.

يمعن في بيجامة الجراحة الخضراء التي كانت ترتديها عندما التقت به. ويحاول معرفة السبب الذي يدفع الأطباء لارتداء اللون الأخضر عند إجراء العمليات. لاحقاً سترافقه إلى غرفتها الشخصية في المشفى يعرف أخيرا اسمها وهو شام كما حلم وتخيّل. عندما تعرف أنه يصغرها في العمر، تبدأ بالتعاطي معه بصيغة معافاة من أي إرباك، وكأنها فهمت أنه لن يكون شريكها النهائي. يطلب يدها للزواج ترفضه بحجة عدم الندية بدرجة التحصيل العلمي وبأنه يصغرها سناً. هنا يبدأ بسبك دهشتها أولا بأول، يهديها تفاحة خضراء فلا تفهم أنها حواء.  يشتري  لها  قلماً مذهّباً محفور عليه اسمها ويقنعها في تمثيلة حضرت في ذهنه فجأة، بأن القلم محشو بالمتفجرات وأنه إن لم توافق على الزواج به في لحظتها سيفتح القلم ليزيل الانفجار الحاصل عنه آثار المكان.

رغم ذلك لم توافق على الزواج به، بل انهارت حينها من البكاء على صدره. فدمعت عيناه تعاطفا معها، وأخبرها على الفور بأنه يمزح، وفتح القلم لها ليريها اسمها المحفور على ذهبه كما وسمَت نظراتها قلبه. أهداها فيلم مدينة الملائكة لنيكولاس كيدج، وميغ رين لتتمعن بالملاك النازل من السماء المتخلّي، عن ملكوته من أجل طبيبة حدّقت به مرّة. فأهدته أسطوانات خوليو الذي تحب، وقالت له أنها ترد له هداياه، بما يشبهها، لأنها تريد ألا تكرر خطأ والدتها يوم تزوّجت برجل يصغرها سناً وعانت منه طيلة أعوام طوال.

زادت مطارداته. فهربت وهي تعرف حقاً بأنها تهرب من نفسها كي لا تضعف وقد شغفها حباً صار يلاحقها لدرجة أنه تعرّف على عاملة مقسم الهاتف الضريرة  في المشفى بحجة أنه نسج التعاطي الصحيح من ذوي الاحتياجات الخاصة، تفلت من ملاحقاته لدرجة جارحة. أخيراً يتصّل بها فيرد عليه رجل يخبره بأنه الطبيب أحمد خطيب شام. ينسحب بهدوء ويعد لها باقة زهوره المعتادة يرسلها لها على صالة فرحها. بينما تسحب البطاقة الممهورة بجمله الخاصة، وتقرأ محاطة بحفل زفاف مبهر، يكون قد اختار شق طريق حياته بعيداً عنها. تمر الأيام ويعرف أنها سافرت إلى فرنسا بينما قصد هو بيروت هرباً من الحرب المندلعة في بلاده، تقرر النزول إلى بلادها بعد أن تسمع عن زوال حيهم كاملا مع سكانه نتيجة الحرب المندلعة هناك.

وتقرر العمل مع منظمة أطباء بلا حدود للدخول إلى الأماكن الملتهبة، والعمل فيها. ستضطر لإمضاء بضعة أيام في مدينة جبيل ريثما ينزل الوفد الطبي بشكل رسمي إلى بلدها. التوقيت سيكون متزامناً مع مهرجانات الصيف التي يحيي أحدها الفنان العالمي خوليو ستتحين الفرصة لحضور الحفل أثناء زحف الجمهور باتجاه الصالة المخصصة للحفل سيصرخ أحد التكفيرين بصوت عال ويفجّر نفسه تسمع من الفندق القريب الصوت أثناء تجهيزها نفسها لحضور الحفل ذاته فتهرع إلى مكان الانفجار مع زملائها الأطباء وتبدأ بعمليات الاسعاف الأولية للجرحى والمصابين وفجأة تراه هو نفسه. القلب ذاته وقليل من الشيب الذي غزا لحيته باكراً، وكثير من الدماء تغطي جسده بعد أن بترت ساقه بالتفجير.

مرّت بمريولها الأبيض. عرفته من بريق عينيه وعرفها من ابتسامتها الدائمة. هما الآن سوريان يعيد الحزن الأبكم خلقهما. التقيا أخيراً.. فقدت عائلتها وحيّها وذكرياتها فعادت إلى حيث هي اليوم مروراً نحو العمل على الاعانة الطبية لأبناء بلدها، وهو فقد ساقه بعد أن هدم منزله، ومات نصف أهله.

لك المجد يا وطن العشاق.

 

قد يعجبك ايضا