“نص خبر”- كمال طنوس
“بالدم” لم يدمغ مكانته وحسب بل حفر عميقاً منذ ان بدأ حلقاته. وفي كل مرة يفتح أسراراً جديدة. لم يتكل على قصة واحدة لينشد حقيقته المثيرة بل فتح قصصاً كثيرة كمنجم لا تنتهي خواص جواهره.
قالوا إن هذه القصة معادة ومدورة من واقع الحياة. خيراً فعلوا عندما أضاءوا على الواقع وانتشلوا منه قصة واقعية. أدتها الحرّفية ماغي بوغصن في كل نبض فيها. وعاونتها الكبيرة جوليا قصار بصوتها الساحر الذي يؤدي الدور كأنها المناخات جميعاً في حنجرة واحدة وجسد ينبض بحركة الأفلاك المعبرة عن كل طقوس النفس البشرية والساحر رفيق علي أحمد إن مشى خطواته عبرت وإن هز عصاه انفجر ألف إحساس وأخرج طيور التعبير والتحليق من قبعته.
نادين جابر جسدت قصصاً في قصة
“بالدم” الذي كتبته نادين جابر بتلك القريحة الجامعة بين عدة قصص. تبدأ عند ضياع النسب وتمشي نحو تجميد البويضات لفتاة -“جسي عبدو” -عشقت وتنحت عن الحب بسبب صدمة عاطفية. وتنطلق سريعاً نحو فتح ملف التبني الملفوف بألف كذبة مع الممثلة العفوية رولا بقسماتي وباسم مغنية في تآلف محموم في الأداء.
وتذهب نادين غوراً في حبرها وتقحم قصة التبرع بالأعضاء بين الأم وابنتها. في لقاء يجسد الأمومة العميقة الصادقة بين القديرة سمارة نهرا ومارلين نعمان. شخصيات نسينا من تكون وماذا كانت وماذا مثلت من أدوار سابقة أنهم حياة ولدت للتو. صاغوا أدوارهم كأنهم خلقوا لهذه الأجواء لا افتعال ولا تصنع بل ارتباط بالصدق الخالص.
وتأتيك نوال كامل كخاطفة في كل كلمة تنبث بها قادرة على خلق إثارة صادقة تعرفها هي وحدها في مدراس التعبير.
لم تكتف نادين جابر عند هذا الحد بل صورت الحب بكل تقلباته من أمواجه العاتية إلى اخفاقاته المريرة عبوراً بالخيانات المتنوعة والتي تأخذ أشكالاً ووجوهاً عديدة.
وحتى لا تسقط حبة خارج ماعونها ابتكرت شخصيات مريرة وشاحبة مثل شخصية وسام فارس الطفيلي الماكر، شاب الزند والصدر العارم باللحم المتكل على عرق النساء المسنات، اللواتي يجدن في الرجولة عضم طري وطعم منسي يطيب ترداد تذوقه ولو عن استغلال.
أما تلك الطبيبة “كارول عبود” والسر الكامن خلف صرخات نسائها وهي تسحب الأطفال من رحم أمهات عانت الاغتصاب والانتهاك أو وقعن في غمرات الحب الكاذب وباتوا هن الخطيئة المرذولة والمضطهدة التي لا يعترف بها أهل ولا مجتمع.
نادين جابر التي كتبت مسلسلاً أشبه ببيت عنكبوت متشابك الخيوط رقيق وشفاف وحقيقي. وعالجت كل ذلك في خلطة ابتكارية أخاطتها وطرزتها بقريحة تعرف كيف تنسج بطانية الثوب وأوشحته ثم زركشته بلآلئ الأبداع وجواهر البريق المنمق ودونت قصصاً في قصة واحدة مترابطة مشوقة.
الإخراج المتجلي
لا يقع من مسلسل “بالدم” نقطة واحدة إلا والدمغة حاصلة. متقن مثقل متأجج بالإثارة. ثم تأتي كاميرا فيليب أسمر لتجسد الأحداث بكاميرا العين لتردد ألف صدى. بيوت عتيقة من عمق العمارة اللبنانية القديمة جدران تحكي سوالف الزمن وحنينه وغربته وشوارع مدقوقة بالحجر الذي مرّ عليه ألف زمن وحضارة. يكمش القصة من جذورها ويعطيها خلفية من تاريخ عتيق في صمته كلام وفي كلامه يطيب الصمت. أخذ من شواطئ لبنان وموانئه العتيقة وبيوته الغائرة بالنسيان مكاناً لتصوير كل هذه الأحداث والقصص ورماها في وجوهنا كطقوس تجلي تمر كأنها لا تمر بل تقبع في العين والروح وتنكش أسراراً أخرى تخص المشاهد كل واحد على هواه. وأدار الكاميرا باتجاه الوجوه التي ابدعت تعبيراً من دموع وضحكات وأمل ورجاء.
إجادة خلط الدمع بالابتسامة
“بالدم” هذه الدراما الجدية المثقلة بالوجع أكثر من أي شيء أخر، لكن الابتسامة حاضرة والمرح ملح مرشوش فوق الجرح. يكفي أن تمر سينتيا كرم في مشهد حتى تنتزع كل كدر وتزرع خضرة عفويتها بشخصية مبتكرة لا يمكن أن ينجح فيها سوى المبدع. سينتيا عمدت كل حزن في المسلسل وحولته إلى لحظة فرح ومسحت كل دمعة بمنديل “هضامتها” الآسر.