برصوما.. يُتوّج المرأة سيّدة للجنَّة وليست حوريّة لها  

الخلود كحاشية على التَّاريخ السُّوري القديم

بقلم أمامة عكوش – كاتب وإعلامي سوري

كأنَّه يرتحل مع شخوص أساطيره ويعيش قلقها، وكأنَّ ريشته تُعبِّر عمَّا تصبو إليّه أفكاره وتروم لأجله أنامله بالقول: “على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة”، ليس الآن فحسب، بل منذ آلاف السِّنين، استحقاق القدرة والبقاء للأفضل، أو هو الأقوى من عدَّة وجوه. لذلك ترفض ريشته وألوانه وسكِّينه على أرضيّة لوحاته الاستسلام لقدر الإنسان المحتوم بالموت والفناء، تماماً كما  لم يشأ جلجامش أن يستسلمَ لذات القدر، فسعى في رحلته الشَّهيرة باحثاً عن وصفة الخلود الأبديّة، متيقّناً في الظَّاهر أنّه سيبلغها، لكنَّ الوعي الخفيّ كان يسير عكس ذلك – حتَّى لو أنكره جلجامش – وأنكرناه نحن على مرِّ السِّنين.

الأسطورة الشّرقيّة

يُكرِّس برصوم برصوما في أعماله عن الأسطورة الشَّرقية تعطُّشه لأن يروي تاريخ سورية القديم بالتَّشكيل. معبِّراً عن ذلك بشتَّى الأدوات، متنقِّلاً بين التَّعبيرية تارةً، والسُّورياليّة تارات، ليقول أنَّ خسارة الأبديّة التي ضاعت من يديّ جلجامش ليست سوى الاطمئنان إلى أنَّه حصل عليّها من حيث لا يُمكن أن تفنى. ليس هو فحسب، بل وبقيّة الشَّخصيات التي صنعت دراما “أسطورة الخلود الشَّهيرة”، جِلجامش وأنكيدو وتموز الرَّاعي وحبيبتُه عشتار “آلهة الحب والخصب والجمال”، وأختُها وضرَّتُها آرشيكيجال “آلهة الموت والعالم السُّفلي”، جميعُها عناصرُ حاضرة ٌفي التَّوثيق الفنَّي للأساطير التي تعاقبت للحفاظ على حلم الخلود السَّرمديّ، لتُرينا وجهاً آخر للخلود.

الآلهة 

يقوم برصوما بإعادة إنتاجه من جديد في اشتغاله على الآلهة أو أنصاف الآلهة أو الإنسان السُّوري القديم. في الجانب الآخر، لم يكُ هذا الخلود ليستمرَّ دون أن تلحقَ به الفجيعة، والتي بدأت في منطقة الجزيرة السُّورية القديمة منذ مقتل تموز وحزن عشتار، لتستمرَّ في كلِّ عامٍ وتتقلَّب بتقلُّب الفصول بين شتاءٍ محل، وربيعٍ مزهر، وصيفٍ مثمر، ليعود الخريف مرَّة أخرى مستأنفاً دورة الزَّوال والبقاء.

الخلود 

تنطبق لوحات برصوم برصوما على الخلود في حدود الفناء “الخلود كحاشية على التَّاريخ السُّوري القديم”، أو كأنَّها تثبيت المطلق بالمسامير على جسد التَّغير والنِّسبيّة، حينها تغدو الجنَّة مجرّد تثبيت اللحظة الرَّاهنة بكلِّ عنفوانها وفيضها، وفي هذا تتجلَّى ألوان لوحاته واضحةً وهي تحمل ما في الجنَّة من كلِّ ما يخطر على بال بشر، لتجمع في عينٍ واحدةٍ ما رأته كلّ عين، وتصبّ في حديثٍ واحدٍ ما سمعت به كلّ أذن!

سيّدة الجنَّة 

ولأنه ليس ثمَّة جنَّة بلا أنثى.. أو حيث تكون الأنثى تكون الجنَّة، فالمرأة سيدة الجنَّة وليست حوريتها، “ملكة في كلِّ حالاتها” هكذا يقول دائماً، وبذات الطَّريقة تجسِّدها لوحاته بكلِّ ما فيها من نمنماتٍ وزينةٍ وزخارف، لا يمكن أن تكون المرأة امرأة بدونها – حسب مفهومه – . وعلى جسد المرأة ووشي زينتها تتمازج أزمنة الأرض السُّورية، من عصر سومر وأكاد حتَّى اليوم، ومن سيرة الوشم الأوَّل، حتَّى آخر صيحات الزِّينة المعاصرة.

المأدبة 

وللخلود في أعمال برصوما فلسفة التَّعاقب والتَّكوين كما سجَّلتها “لوحة المأدبة” واحدة من أشهر لوحاته. وتضمنَّت فلسفة حياتيَّة يبحث من خلالها عن الجدليَّة والتَّضاد، جدليّة فكريّة على صعيد اللون والمعنى، يبدأها باللون، حيث عمل الحاسَّة الأسرع في الفنِّ التَّشكيليّ، ليشدَّ من خلالها الجمهور إلى الحوار، كي يصلوا بأنفسهم “مع لوحته وعبرها” إلى المعنى، وعلى الرُّغم من ذلك ليس ثمَّة تناقض مع روح المسألة البْرِيخْتية التي يُصِرُّ برصوما على تأكيدها في مجمل أعماله. لكنَّ هذا التَّعلُّق بالأزليّ والأبديّ في مسائل الخلود والحياة وفلسفات الوجود الشَّرقيّة لا ينفصل في روح أعمال برصوم الفنيّة عن اليوميّ والمُحَايث، ولا عن التَّفاصيل الصَّغيرة والبسيطة التي يعيشها الإنسان السُّوري في يومنا هذا. بذلك يكمل الحفيد مسيرة الآباء الأوائل، الذين جمعوا منذ ذلك الوقت المسائل الكبرى إلى تفاصيل الحياة اليوميّة.

سيرة 

الفنان التَّشكيليّ السُّوريّ برصوم برصوما أو (ابن الصَّوم في السُّريانيّة) من مواليد الحسكة عام 1947، ربَّما لم يكُ ذلك الشَّاب المتعجّل في طيّ صور الجمال التي اختزنتها طفولته “الجزراوية”، فلم يعبأ كثيراً بتخرجه المتأخّر من كلية الفنون الجميلة في مدينة دمشق وهو في بداية ثلاثيناته عام 1977، ولكنَّه أدرك العمل في تدريس الفنون في مدارس العاصمة، كما لم تتأخّر عضويّته في اتّحاد الفنانين التَّشكيليين محليّاً وعربياً، لتطير لوحاته إلى أوروبا، ومن داخلها سيكتشف جلجامش سرّ الخلود ويذوق حلاوته، وهو يتأمَّل متذوقي الجمال أمام جدران الفنون في كلٍّ من بلغاريا والدنمارك وألمانيا وإسبانيا، وبذات القدر.. في جُلِّ العواصم العربيّة، وبالأصل.. في مدن موطنه الأمّ “سوريا”.

قد يعجبك ايضا