22 يوليو 2023
حاوره: هاني نديم
بسيم الريس التشكيلي والكاتب السوري في ضيافة نص خبر، مبدع نشيط يتنقل بين الفنون بكل اقتدار، يكتب السيناريو والسرد ويرسم بعوالم عجائبية وألوان حارة جعلت للوحاته خصوصية فريدة وهوية “المستر واي” الذي لا يكف عن الأسئلة، إلا أنني أنا من يسأله اليوم:
- من هو مستر واي، وأي متكأ ثقافي تريد منه؟ هل هو أنت في مكان آخر؟
– توفي والدي وأنا ابن السادسة، من يومها لم أجد من يجيبني على تساؤلاتي، إخوتي ليسوا أكبر مني بكثير ليجيبوني، والوالدة مشغولة بتفاصيل حياتنا. كنت بمواجهة الحياة بجلدي وأظفاري. أسئلتي كانت كثيرة حول الموت والحياة، ونشأة الكون والله وعباده ومخلوقاته، وكل شيء تراه عيني وتسمع به أذني، لكن لا أحد يجيب، لا أساتذة ولا أصدقاء ولا عائلة ولا رجال دين.. كثرت الأسئلة بجوفي حتى مللت منها، تخيل حتى عندما ابتكرت توقيعي الشخصي انتبهت لاحقاً أنه ينتهي باشارة استفهام. اكتشفت لاحقاً أن الكتب هي ملجأي لإطفاء نار الأسئلة الملتهبة في صدري.
كبرت وكبرت عادتي معي، وأصبحت أسأل نفسي وأجيبها، حتى عرفت أن مفتاح المعرفة يبدأ بالسؤال (لماذا؟) أو (Why?) . واختزالها حرف (Y).. وبما أن أسمي RAYYES فهاذان الحرفانYY جعلاني أشعر بأنهما يعبران عني أكثر (Y) لي و (Y) لمن أتحاور معه ومن حينها أطلقت على الآخر: (مستر واي) أو (Mr.Y) .
أسأل نفسي سؤالاً وأقف أمام اللوحة وأبدأ بالرسم واترك لمستر واي الإجابات.. حقيقية يا هاني مستر واي حررني وأعطاني جرأة كبيرة لطرح أسئلة لم تخطر على بالي سابقاً.. إن مستر واي حقيقي أراه يجلس بقربي ويحدثني.
بكلمات قليلة: مستر واي هو ما يجوب بداخلي من مشاعر وأفكار تتجسد أمامي، ثم أقوم بإعادة تدويرها بصرياً من خلال الاحتمالات اللانهائية لتلاقح الخطوط والألوان، واكتشاف معاني بصرية ملموسة من أفكار ومشاعر محسوسة. لاحقاً أخذت أجسد علاقتي مع مستر واي بحواريات أنشرها بين الفترة والأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي.
هل تعلم يا هاني أن هناك الكثير من الأصدقاء يتصلون بي ويطمئنون أولاً على مستر واي قبل الإطمئنان علي.
نعم يا صديقي: مستر واي هو أنا عندما أكون وحيداً في مرسمي.
- بين الكتابة والرسم، هل هنالك تبادلية لديك، بمعنى أنك قد تكتب باللون وترسم بالكلام؟
– لا أتذكر متى بدأت الكتابة.. كنت صغيراً أقرأ كثيراً وأرسم أكثر.. أكتب وأرمي أوراقي في المدفأة، لم يكن يعنيني أن أكون كاتباً حينها، أو لنقل أنني لم أكن مقتنعاً كفاية بما أكتب. حتى أني كنت أكره حصة اللغة العربية في المدرسة.
لاحقاً قرأ لي بعض الأصدقاء والكتّاب وأشادوا بما أكتب، ففتحت قلمي على مصراعيه، وكتبت ما أراه في رأسي من صور، وبدأت أصفه بالكلمات، إنها لعبة جميلة. كبرت اللعبة حتى أصبحت عادة. أرى شخصاً ما ألتقط تفاصيله ثم أتخيل قصة له وأجعله يعيش العوالم التي أريد وأكتبها. يا له من عالم ساحر.. لم أتوقع بأني سأحصد جوائز على كتابتي القصصية تلك.. فجائزة الشارقة للإبداع العربي عن مجموعتي ” غداً سأخيط فمي” كانت مصادفة.
وهكذا أصبحت أتعب من الرسم فاتجه للكتابة، أرهق من الكتابة فآخذ استراحة في الرسم.. الرسم والكتابة عالمان مختلفان ولكنهما متصلان كوجهي عملة.. نعم لوحتي فيها الكثير من الكلام والأحرف والرموز.. وقصصي فيها الكثير من الصور والألوان.
- ماذا عن صناعة الدراما وكتابتها، هل تشارك بالمخرج البصري، هل تقترح؟ كيف علاقتك بهذه الصناعة، حدثني عن مشاريعك
– الكتابة القصصية قادتني لكتابة السيناريو، فكونه جنس أدبي مختلف ومرتبط بالسينما -التي أعشق- جعلني أبحر في معرفته، لأتعلم أساليبه وطرقه ومدارسه. وللحقيقة أعتقد أن هذا الجنس الأدبي من أصعب أنواع الكتابة لما يحتاج من وحدة وسكينة وتوحد مع الذات وانعزال مطلق. من يريد أن يكتب سيناريو عليه أن يكون سجين غرفته وغير مسموح للذبابة أن تمر من أمامه. كتابة السناريو مسؤولية كبيرة. كتبت بعض الأعمال الدرامية منها مسلسل “الوسم” الذي قضيت في كتابته عام ونصف.
ما قادني لكتابة السناريو هو شعوري القديم بأن في داخلي مخرج وسيخرج للعلن يوماً ما. ومشاركتي بالمخرج البصري هي عن طريق اسلوبي بكتابة السناريو فأنا غالباً ما أكتب بأسلوب الكاتب-المخرج (طبعاً هذا غير محبذ لدى أغلب المخرجين وشركات الأنتاج).
“الورق ثم الورق ثم الورق” هذا ما يصيح به جميع صنّاع الدراما، يعني كاتب السينايو هو الحلقة الأولى والأساسيّة في العمليّة الإنتاجيّة، ولكن عند اسقاط هذا على أرض الواقع تجد أن الكاتب هو الحلقة الأضعف في دائرة الأنتاج تلك. يبقى الكاتب شهوراً في عزلته وألمه كي يعطي نصاً ذا قيمة، يأتي المخرج أو المنتج أو نجم العمل ليغير ما يشاء إضافة وحذفاً، وتسقط مقولة الكاتب عندها، برأيي حقوق الكاتب مهدورة، معنوياً ومادياً. ولو أردنا دراما ناجحة يجب أن يأخذ الكاتب حقه كاملاً في الوقت والجهد وأتعابه واحترام ورقه. نحن في زمن يا هاني أدعوه: (إملأ الفراغ التالي).. هناك ساعات بث للقنوات ويجب أن تملأها، وتملأ فراغها كي يأتي المعلنون إليها.. هذا بالمختصر. الدراما أصبحت: إملأ الفراغ التالي.
لدي عدة مشاريع كتابية أنتظر أن تأخذ مكانها المناسب في هذا الوسط المحتشد، ولعلي أذكر منها مسلسل “جرافيتي” الذي أتناول فيه حياة فنان تشكيلي في قالب درامي لا يخلو من التشويق والإثارة والجريمة والمافيا الفنية.
- أريد لو عرفت شيئا عن بداياتك، أحلامك، وجوهر اعمالك والمراد منها؟
– أطفال نصنع السعادة من لاشئء، من الورق، من الطين، من الماء، لم نكن نملك موبايلات ولا تلفزيونات ولا هواتف أرضية. هكذا كنّا نحن جيل السبعينات. أنا كنت أرسم كثيراً، ولا أعرف كيف إلتصق فيّ اسم “بيكاسو” أينما ذهبت، في المدرسة، وفي الحارة، عند الأقارب. جميع من حولي اهتموا لما أرسم، وبدأت أعينهم تتجه نحوي، لم أدرك السبب حينها. ثم أصبحت أرسم لأرى تلك النظرة على وجوههم، أو لأسمع منهم تعابير الإعجاب والدهشة. حسناً.. لأستمر في الرسم يبدو هذا قدري.. لم تكن لدينا أحلام حينها.. كنا مشغولين بالعمل ونحن صغار..
كنت أحب التحدي.. أضع شيئاً ببالي ومن ثم أتوجه لتنفيذه.. هذه العادة قادتني دون دراية لاكتشاف عوالم لم أكن أتوقع أن أخوضها.
فأول لوحة زيتية رسمتها كنت في عمر 15 عاماً تقريباً، كانت نسخ للوحة عالمية، موضوعها الصياد والكلب يستكشفان الطقس قبل الذهاب للصيد. رسمتها بعناية. وكوني ولدت في دمشق حارتي هي باب توما، وكانت حارة الصيادين حينها، انتشر خبر اللوحة بين الجميع وأتاني صيّاد يريد شراءها، فتمنعت، ثم طلب مني أن أرسم وأخطط على واجهة محل الطيور الذي يملكه، فوافقت، وهنا دخلت عالم الخط واللوحات الإعلانية، وبدأت أتحدى ذاتي وأكتشف دهاليز هذه الصنعة، فبت أخطط وأصنع جميع أنواع الآرمات، من البلاستيكية والنحاسية وحتى “النيون” لمحلات دمشق. رسمت وخططت على جدارن دمشق الكثير الكثير ، لم أكن أعرف حينها أن هذا فن وهو يدعى “جرافيتي” وهو فن قائم بحد ذاته ومنشر في العالم وله رواده ومعجبية. كنت أرسم وأبحث عن لقمة العيش..
أحلامي حينها كانت بسيطة هي أن أتغلب على الأسطورة بيكاسو المدهش، لكنني لم أتعلم فن الأختيار، فكانت خياراتي غالباً ما تخونني. فمثلاً دخلت كلية الفنون الجميلة في دمشق متفوقاً، ثم تركتها بعد شهرين والتحقت بكلية الزراعة. لماذا؟.. لا أعرف.. هو الأختيار!!.. لهذا علمت نفسي بنفسي الرسم. وأنتجت إلى الآن آلاف اللوحات.
لبيكاسو مقولة “الفن هو قفزة في الظلام”.. مشيت عليها طويلاً وهي من قادتني لأكتشف الكثير من خلال البحث والتجريب والتحدي الذي أعشق. حتى توصلت لأن أقول “الفن دهشة”، كل ما يدهشك حتماً هو قطعة من الفن. وفي السنوات الأخيرة أكتشفت أن الفن بكل بساطة هو “نكتة” لما تحتويه النكتة من عناصر تلاصق مفهوم الفن، من الدهشة والاختزال وأسلوب الإلقاء ودغدغة الأفكار ولامشاعر، وأهم عناصرها على الإطلاق هو التجديد، فلا يمكنك أن تلقي نكتة واحدة طوال حياتك، ستصبح مملاً وسمجاً. أكتشف نكات جديدة أكثر، وابتكر عوالم جديدة أكثر، قد تكون غريبة للبعض ولكن يجب أن تكون غير مقالة من قبل.
تطورت تجربتي في الإمارات كثيراً وانتشرت لوحاتي في أماكن كثيرة حول العالم، واقتنى لوحاتي الكثيرون. ولكوني أحب أن يكون الفن متاحاً للجميع أقمت مبادرتي “على كل جدار لوحة” بداية عام 2011.. وزعت فيها مئات اللوحات كهدايا على كل من أحب أن يقتني لوحة لي. كانت تجربة إنسانية عظيمة لم تأخذ حقها حينها لتطور وتسارع الأحداث في عالمنا العربي.
حسناً.. وماذا بعد؟!!..
إنه مستر واي الآن ولا أعرف أين سنذهب سوياً في هذا العالم، سلاحنا هو قلم وريشة ولون وقماش أبيض فقط.
ما أريد من لوحتي يا هاني هو بسيط، لأ أريدها أن تمر مرور الكرام من أمام مشاهدها، أريد من لوحتي أن تستوقفه وتسأله، يجيبها فتحاوره، يكرهها، يحبها، يتعاطف معها أو يخاصمها. أحبها أن تنزل إلى الشارع وتشارك الناس حياتهم، لا أريدها أن تكون في المتاحف تحت أجهزة التكييف وخلف الزجاج البارد. لا أريدها هكذا أبداً..