بليغ حمدي.. صانع “البهجة والدّهشة والشّغف والشّجن”
حينَ يدورُ العشقُ بين روحٍ وأذن .. وتُحَرِّكُ المشاعرُ الكيان لتنطقَ المسام
12 يوليو 2023
أمامة أحمد عكوش – كاتب وصحافي سوري
حينَ يدورُ العشقُ بين روحٍ وأذن، حينَ ينبضُ العقلُ .. ويَتفكَّرُ القلبُ، حين تُتَرجِمُ الأنامل النَّبض والفِكْرَ.. عَبْرَ وَتَرٍ ونغم، حين تُحَرِّكُ المشاعرُ الكيان.. لتنطقَ المسام، حين تَخْلُقُ أنغامُهُ البسمةَ والصَّمتَ والآهات والنَّجوى، حين يرنو من أحاسيسنا .. لتبتسمَ المهجةُ تارةً، ويدمعَ الفؤاد في أخرى .. حينها الشَّجنْ، كأنَّ الموسيقى مَنْ كَوَّنَتْ جيناته، لِتُكَوِّنَ الأوتار والنُّوتات مجرى شرايينه. حين كلّ هذا.. لنُصْغِيَ ببهجةٍ.. لعَبَقِ اللحنِ من “بلبل”، لنُدْرِكَ بدهشةٍ.. أنَّنا رِفْقَةَ الـ “أمل”، لنَعْلَمَ بشغفٍ.. أنَّنا في حضرةِ “ابن النّيل”، لنَتَيَقَّنَ أنَّ هذا البوهيمي سيد الـ “ومضات من ألماس”، لنُسَلِّم أنَّ هذا المجنون “ملك الموسيقى والإحساس” .. البليغ “بليغ حمدي”.
“عايز أبقى مزيكاتي”
في السّابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 1931، أذنَ القدرُ بصرخةِ حياة بليغ عبد الحميد حمدي مرسي، في حي شبرا في القاهرة، لأب أستاذ فيزياء، وعالم في مجال الطّبيعيات “حائز على جائزة الدَّولة”. كانت الموسيقى وحدها مَنْ تكبح جماحَ الطّفل المشاغب في سنيه الأولى، إلى أن صرخ ابن السّابعة بجملته “عايز أبقى مزيكاتي” التي استوقفت أهله مليّاً، وأصبح يكررها، ويكررها، وهو يتراقص بعفوية جذّابة – حسب أهله – على إيقاعات أي ألحانٍ أو أغانٍ تطرق رأسه. كما طلب في عامه الثّامن مِن والده عوداً – فكان له ما طلب – وعزم والده على تسجيله في معهد “فؤاد الأوّل” للموسيقى، لكنّهم رفضوه لصغر سنه، صارت أنامله تدندن وحدها على عوده، في محاولة منه لتعلّم العزف وحده، إلى أنْ أتقن سماعياً حفظ بعض المقطوعات وهو “ابن التّاسعة”، لتسنح له الفرصة بدراسة الموسيقى بشكلٍ ممنهج، في مدرسة “عبد الحفيظ إمام” الموسيقية – التزامه بمواعيد الدُّروس، وشغفه خارجها باحتضان العود طيلة يومه – جعل أسرته مقتنعة أنَّ “الموسيقى ستكون كلّ حياته”.
ما تحبنيش بالشّكل ده!..
بدأ بتعلّم الموشحّات العربية على يد الأستاذ درويش الحريري، ثمَّ التحق بكلية الحقوق، وفي ذات الوقت قُبِلَ في المعهد الذي رُفضَ منه سابقاً، معهد فؤاد الأول “معهد الموسيقى العربية حالياً”، إلى أنْ أتى اليوم الذي أقنعه فيه مستشار الإذاعة المصرية محمد حسن الشَّجاعي باحتراف الغناء، فلبّى حمدي رغبة الشّجاعي وقدّم أربعة أغانٍ، لكنّها لم تلقَ رواجاً. فعاد إلى التّلحين عبْر أغنيتين لفايدة كامل (ليه لأ، ليه فاتني ليه)، ومن ثمّ لحّنَ (ما تحبنيش بالشّكل ده) لفايزة أحمد، وأصبح بعدها يسجّل أغاني لصالح “بيضا فون” للأسطوانات، كما شاركَ بالتّلحين والغناء في فرقة “ساعة لقلبك”، لتتوطّد علاقته بالموسيقار محمد فوزي، ويبدأ العمل في شركته “مصر فون”.
البداية الحقيقية
بعدها، تعرَّف بليغ على العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وكان التّعاون الأوّل بينهما، عبر تلحينه لأغنية “تخونوه” سنة 1957 كلمات اسماعيل الحبروك من فيلم “الوسادة الخالية”، وهو اللحن الذي قال عنه حمدي: “تخونوه .. بدايتي الحقيقية”، وكذلك النّقاد: “حقّاً.. تخونوه، بداية بليغ حمدي، هو العمل الذي أصبح يجسّده ملكاً في عالم الموسيقى بلا منازع”، وهو ما دعا أيضاً.. الشّاعر كامل الشّناوي إلى القول حينها: “بليغ طالب حقوق فاشل، ولكنّه أمل مصر في الموسيقى”.
طعم .. رنّة!
أبدع بعد “تخونوه” مئات الألحان الرّومانسية، بإيقاعات طويلة وقصيرة، إضافة إلى أنّه نظم النُّوتات الخاصّة لقصائد غنائية ووطنية، وحتّى للأغاني الشعبية، وإلى تلك التي تحمل مسحة فلكلورية، علاوةً على تلك التي تحمل تيمة الابتهالات الدّينية، ومن أشهرها مجموعة المقامات للشيخ سيد محمد النّقشبندي، وأهمّها “مولاي إنّي ببابك”، ناهيك عن أغاني الأطفال مثل أغنية “أنا عندي بغبغان”، واللافت أنّه كان يكتب النّوتة الموسيقية لألحانه بنفسه وبتوزيعاتها المختلفة، كما أنّه حمل إجماعاً من الفنّانين الذي غنّوا من ألحانه، بأنّ “للعمل معه طعم استثنائي، ورنّة مختلفة”.
العندليب
تمخّض تعاونه مع العندليب الأسمر خلال الفترة الممتدّة من نهاية الخمسينات حتّى منتصف سبعينات القرن الماضي، عن ما يصبو من الثّلاثين عملاً، منها ( “خسارة – خايف مرّة أحب” كلمات مأمون الشّناوي من فيلمي “فتى أحلامي، يوم من عمري”، و “سوّاح، جانا الهوى، زي الهوى، مدّاح القمر، حاول تفتكرني” كلمات محمد حمزة، و “على حسب وداد قلبي” كلمات صلاح أبو سالم، و “توبة، الهوى هوايا – التي غنّاها حليم في فيلم أبي فوق الشّجرة – ” كلمات عبد الرّحمن الأبنودي، و “قومي يا مصر” كلمات عبد الرّحيم منصور، و “أعز النّاس، الفجر لاح” كلمات مرسي جميل عزيز، وكان الختام بينهما في “أي دمعة حزن” كلمات محمد حمزة، و “حبيبتي من تكون” كلمات خالد بن سعود).
حب إيه ..
كان حمدي يؤلِّفُ موسيقاه في بعض الأحايين على “كُمّ القميص”، أو على “ورقة فاتورة التّلفون”، صاعداً على السُّلم، أو جالساً على الأرض، ومن أشهر ألحانه في حالاته المجنونة العبقرية هذه، أنْ لحّنَ وهو في التّاسعة والعشرين “الكوبليه الأوّل” لأغنية “حب إيه” وهو جالس على الأرض، فما كان من كوكب الشرق إلَّا أن جلست بجوار أصغر من لحنّوا لها، لتنظر اللحن وتدندن كلمات عبد الوهاب محمد. وجاء هذا التّعاون بين السّيدة والشّاب، بعد أن قدّمه لها محمد فوزي بالقول: “عندي ليكي حتة ملحّن يجنن، مصر حتغني ألحانه أكتر من 60 سنة قدام”، ليكون اللقاء الأوّل في منزل طبيب أم كلثوم “زكي سويدان”، وهو ذات اللقاء الذي افترشا فيه الأرض، وكانت “حب إيه”.
كوكب الشّرق
بعد النّجاح الكبير الذي حصدته “حب إيه” سنة 1960، استمرّ التّعاون بين “كوكب الشّرق وأمل مصر”، ليوقِّع على عشرة ألحانٍ إضافية لأغنيات خالدة بصوتها، منها “أنساك، كلّ ليلة وكلّ يوم، بعيد عنك” كلمات مأمون الشناوي، و “سيرة الحب، فات الميعاد، ألف ليلة وليلة” كلمات مرسي جميل عزيز، و “سقط القناع” كلمات عبد الفتاح مصطفى، و “الحبّ كلّو” كلمات أحمد شفيق كامل، و “ظلمنا الحب، حكم علينا الهوى” كلمات عبد الوهاب محمد، و “حكم علينا الهوى” آخر ما غنّته أمّ كلثوم في حياتها عام 1973.
زواج .. حب!
بدأت حياة بليغ الأُسَرية بزواجه من المصرية “أمنيه طحيمر”، إلّا أنَّ هذا الزَّواج لم يستمرّ إلَّا سنة واحدة، لتظهر في حياته بعد سنوات المطربة الجزائرية وردة – القادمة من الجزائر، وتبحث عن مكانها وسط عمالقة الطّرب العربي – ويجمعهما القدر، وليعيش الثّنائي قصّة حب عنيفة، انتهت بالزّواج عام 1972، الزّواج الذي حصل في منزل الرّاقصة “نجوى فؤاد” التي كانت تعقد قرانها بنفس اليوم أيضاً، وهو ما فتح لـ”وردة” أبواب عالم الشّهرة والنّجومية على مصراعيها، خاصّة بعد أنْ “حوّل حمدي بعض الرّوائع التي كانت مخصّصة لأم كلثوم والعندليب، لصالح وردة” حسبما أكدّ بعض النّقاد في أكثر من مناسبة.
ثمار الحب!
وهذا جلي.. فـ ثمار حبّهما وزواجهما، نتج عنه أنّ أغلب ألحانه طيلة فترة زواجهما كانت لـ “وردة”، الزّواج الذي استمرّ زهاء السّبع سنوات، لحَّن لها خلالها أكثر من خمسة وعشرين أغنية، كما تعتبر أغاني وردة الموقّعة باسم حمدي حسب رأي النّقاد “من أهمّ ما غنّته طيلة مسيرتها”، ومنها “العيون السود، خليك هنا، حكايتي مع الزّمان، مالي وأنا، ومالو” كلمات محمد حمزة، و “اسمعوني، اشتروني، وحشتوني، احضنوا الأيام، ليالينا” كلمات سيد مرسي، و “لو سألوك، على الرّبابة” كلمات عبد الرّحيم منصور، و “دار يا دار، بدوب في الهوى” كلمات حسين السّيد، و “دندنة، عايزة معجزة” كلمات عبد الوهاب محمد، و “بودعك، عجبي على دنيا” كلمات بليغ حمدي، وبطبيعة الحال.. من ألحانه.
أبناء!..
انفصل الثّنائي “بليغ – وردة” أواخر السّبعينات، إلّا أنّ المتأمّل لحياته، يجد أنَّ الجانب العاطفي شغل مساحةً كبيرةً منها، لجهة السّيدات اللاتي أحبهنّ أو تزوجهنّ – من داخل الوسط الفنّي أو خارجه – “هُنّ كلّ شيء في حياتي ولا يمكن أن أتصوّر نفسي من دونهنّ” بهذه الكلمات عبّر “ملك الإحساس” عن زوجاته غير مرّة، والذي قيل حسب أكثر من مصدر أنَّها سبع زيجات، “وردة حبّي الصّادق الأوّل والأخير” وهذا ما قاله في أكثر من مناسبة. ولربّما هذا السّبب الذي جعل زيجاته التي حصلت بعد انفصاله عن وردة، تنتهي بالطّلاق أيضاً، ليظلّ العاشق وحيداً يبحث عن حبّه الضائع، كما أنَّ زيجاته لم تفلح في تحقيق حلمه بأنْ يصير أباً، لتكون أعماله بمثابة أبناء له من “روح ودم ولحم” كما قال حين مرّة.
مواهب .. عمالقة!
الموسيقار الذي جمعه القدر والموهبة والعلم والإرادة بعمالقة الطّرب العربي، ساهم أيضاً.. في اكتشاف عديد المواهب العربية، ممّا دعا النّقاد إلى القول: “كان يتعامل مع الفنّانين الذين لحّن لهم، خاصّة ممّنْ كانوا في بداياتهم، على أنَّهم بمثابة أبنائه، ويقدّم لهم أقصى ما تلده روحه وعقله وأنامله من أنغام”، فمن بين عشرات المواهب التي احتضنها أو اكتشفها خلال مشواره (نجاة الصّغيرة، محمد منير، شادية، عفاف راضي، سميرة سعيد، عزيزة جلال، علي الحجّار، ميادة الحنّاوي، لطيفة، صباح، أصالة، هاني شاكر، وليد توفيق، فهد بلّان). وأردف حينها بعض النّقاد: “متَّعتنا ألحانه لكلّ هذه المواهب .. إلّا أنّه تجاوز الإمتاع، وأوصلنا إلى حدّ البهجة مع صباح في “يانا يانا، زي العسل، عاشقة وغلبانة”، وإلى حدّ الدَّهشة مع شادية في “رنّة قبقابي، و قولوا لعين الشمس، و آه يا أسمراني اللون – من الفلكلور الشّامي -“، وإلى حدّ الشّغف مع نجاة في “الطّير المسافر”، وإلى حدّ الشّجن مع ميادة الحنّاوي في “أنا بعشقك، الحب اللي كان”. يذكر هنا.. أنَّ عطاء العقد الأخير لـ “ابن النيل” كان موجهاً بشكل “شبه حصري” لمطربة الجيل ميادة الحنّاوي، والتي حظيت أيضاً.. بآخر ألحانه في حياته مطلع عام 1993 عبر رائعة “عندي كلام” كلمات عبد الرّحمن الحوتان.
مسرح .. شاشة!
لم يقتصر اهتمامه على التّلحين للعمالقة والشّباب، بل اهتمّ أيضاً بالمسرح الغنائي، إذ قدّم عدّة مسرحيات غنائية وأوبرات استعراضية، أهمّها “مهر العروسة، تمر حنّة”، وكذلك وضع موسيقاه على عدد من المسرحيات أشهرها “ريا وسكينة”، كما وُقِّعَتْ الموسيقى التّصويرية للكثير من الأفلام باسمه، منها “أضواء المدينة، احنا بتوع الأتوبيس، شيء من الخوف” الذي قال فيه النّقاد: “لقد منحنا بليغ حمدي جواً ملحمياً مع صوت فؤادة، وهى تغرّد بأغاني فيلم شيء من الخوف”. وفي المسلسلات التّليفزيونية مثل “محمد رسول الله، ليلة القبض على فاطمة، بوابة الحلواني” الذي جعل النّقاد يقولون: “الموسيقى التي وضعها لبوابة الحلواني، من أكثر عوامل نجاح هذا العمل”.
سيد درويش
عرِف عن بليغ حمدي “نسيانه الدّائم، وحسّه المرهف، وطيبته الشّديدة” حسب أهله وأصدقائه، والذين أكدّوا أيضاً أنّه “رغم غزارة إنتاجه الفنّي، إلَّا أنَّه لم يُقمْ وزناً للمال، ولا للوقت”، ممّا جعل بعض النّقاد يشبّهونه وفق “حياته البوهيمية” بموسيقار الشّعب “سيد درويش”. كما لقّب بالعديد من الألقاب، أشهرها: “سيد درويش العصر، ملك الموسيقى”، فيما كان أصدقاؤه ينادونه “بلبل”، أمّا هو فقد وقّع على الكثير من أعماله باسم “ابن النّيل”. ابن النّيل الذي قال فيه فنّان الأجيال محمد عبد الوهاب: “ألحان بليغ حمدي ومضات من ألماس على تراكيب من صفيح”.
مَلَك .. مَلِك!
ها هو مَلَكُ الموت يقبض روح أحد أفضل من أنجبت الموسيقى في العالم العربي – إن لم يكُ الأفضل – حسب عديد النّقاد، بعد صراع طويل مع مرض الكبد، لينتقل إلى الرّفيق الأعلى في الثّاني عشر من أيلول/سبتمبر عام 1993، عن 62 عاماً، ولتعنون جريدة الأهرام العريقة صبيحة اليوم الذي يليه مانشيتها الرّئيس بـ “مات مَلِكُ الموسيقى”.