22 يوليو 2023
تأتي الحروب وتأتي معها الأوبئة والبطالة والتضخم والنقص الغذائي والفوضى والنزاعات الفكرية والقلق الذي يضر بالإنسان قبل الأسواق، وعلى هذا فإن العالم برمته يحاول أن لا يعترف أننا مقبلون على أيام عصيبة وذلك منعاً للمزيد من التضخم والعمل بـ”لا” أخلاقيات الحرب التي لا تعرف ميزاناً ولا حسباناً إلا بما يشير أن البقاء للأقوى.
وفي الحرب أيضاً يصبح الإعلام مجرد أكاذيب وتلفيقات تعبوية هنا وهناك، لا أرقام صحيحة ولا إحصائيات دقيقة، وهذا يفسر قول روزفلت بأن الحقيقة أولى ضحايا الحرب.
وإن اتفقنا بأن بنيوية الحرب تغيرت فإننا هنا وفي هذه اللحظة نشهد حروباً كثيرة غير الحرب الأوكرانية الروسية، حيث بات من الواضح أن الصين وأمريكا تخوضان حروباً كثيرة نرجو أن لا يكون السلاح أحد أدواتها. إلى جانب الصراع الأفريقي الأوروبي والآسيوي الأوروبي وهو سلاحه الهجرات والقوارب المطاطية والغرق والموت في سبيل اللجوء والحياة المنشودة.
السوق المالية لديها حروبها وأسلحتها أيضاً من احتكار ورفع أسعار وخفضها، وكل صاحب سلعة ضرورية اليوم بات سلاحه في يده ويوجهه لمن أراد ومتى ما شاء. أما الحرب الأخطر اليوم هي الحرب الأيدلوجية العقائدية التي طفحت اليوم مع حرق القرآن في السويد وتلويح فنلندا بذلك.
ولو فكرنا ملياً في كل ما يحصل من فوضى واضطراب لتيقنّا أن الحرب ما زالت هي الحرب، تأخذ في جرابها كل شيء هزيل ومهتز ومرتجف، وتغير معادلته لتدير فوهة البندقية مجازاً إلى عدو آخر.
ولعلي لا أبالغ اليوم إن قلت أن أخطر الأسلحة وأكثرها فتكاً هي وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك أنها في يد الجميع، المعتوه والمأفون والموتور والمظلوم والظالم والمفكر والأحمق والمرتجف والواثق والمهزوم والمنتصر. حيث بات لكل رأي مهما كان مستهجناً أتباع ولكل مذهب مهما كان مريباً دعاة، وأصبح إطلاق صوتٍ واحدٍ في هذا الفضاء يتردد صداه في كل العالم.
يقول أحدهم اقتلوه، يزيد آخر: نعم اقتلوه، وهكذا صوت وصدى وصوت وصدى حتى بات “البتّ” في الأمر بعيداً والحسم فيه قصيا.
حتى الخبر الصحفي المرتجّ والمرتجف والمتشكك والكاذب اليوم، صار مصدراً غير محايد، وعبئاً أكثر مما هو حلٌ وكشف. فلا نعلم رأس مَن مِن يد من.
بعد الحرب العالمية الثانية، تبينت الهوة السحيقة بين الشارع الأمامي والشوارع الخلفية، بين الطبقات والشرائح، بين واجهات المحال اللامعة وحاويات القمامة، وظهر كتّابٌ جدد وحركات فكرية جديدة تنتصر للمغيّب من الحضور على صفحات الجرائد والضوء الإعلامي، لأولئك المهمشين والعاطلين عن العمل والطبقات الدنيا التي تنمو في العشوائيات بسبب تغوّل الشركات وتحولها إلى تنين يبتلع الحكومات والمدن، مثل حركة الهيبيين وحركة البيت، واحدة عدمية وأخرى فاعلة، بحسب هانتر طومسون، الذي كان أول من فرّق بين الهيبيين الموسومين بالضياع والهروب نحو العدم من واقع مفترس. وحركة الـ BEAT بوصفها ثورة فكرية يمكن أن نلجأ لها في بحثنا عن الحقيقة.
ولكن أية حقيقة ننشدها في ظل هذه الاضطرابات؟ أستذكر هنا ريزارد كابوسينسكي الصحافي البيلاروسي الذي أخذته والدته إلى بولندا بحثاً عن والده الجندي. كانت الحرب كقاعدة للحياة عميقة في نفسية الشباب بعد تلك السنوات الأولى من الجوع المتواصل والبرد والموت المفاجئ والخوف والرعب، كانت الناس بلا أحذية ولا منازل ولا كتب في المدرسة. كتب كابو بعد عقود: “نحن الذين خضنا الحرب ندرك مدى صعوبة نقل الحقيقة حولها إلى أولئك الذين تكون هذه التجربة، لحسن الحظ، غير مألوفة بالنسبة لهم. نحن نعلم كيف تفشل اللغة لدينا، وكم مرة نشعر بالعجز، وكيف التجربة لا يمكن نقلها في آخر الأمر”.
ولأن الإنسان لا يتعلم من التاريخ كما أفادنا التاريخ بذاته فإن الحال دوماً يتكرر، تنين الشركات والاحتكارات والنخب الأوليغاركية المتوحشة مع الميليشيات المسلحة إلى جانب أصحاب الياقات البيضاء من غاسلي الأموال ومهربي المخدرات يستولون على حصة كل الغابة ويتركون الفتات لبقية خلق الله فتقوم الحرب.
ومع الحرب تأتي الأوبئة والفوضى والمجاعات والخ الخ الخ إلى ما لانهاية.