“نص خبر” – كمال طنوس
“خيال صحرا” لجورج خباز وعادل كرم على مسرح كازينو لبنان. ليست خيالاً ولا صحراء. إنها البقعة الأشد نضارة في أذهان كل اللبنانيين. إنها العرق الوجداني الذي عاشه كل لبناني، حيث يلتئم الحب بالحرب والضياع بالألفة، والشكوى بالعزاء. إنها مساحة خضراء نود العيش فيها حتى أخر الزمان.
ساعة ونصف والقامتان تلتحمان مع الناس هما يتكلمان أو يعزفان على أوتار المخيلة الطازجة والقديمة والناس تفرح وتبكي. يختلط الدمع بالقهقهة والوجع بالسخرية. والرقص بالجرح.
يجيد جورج خباز جمع أفكاره ورصها على شكل كوميديا وتراجيديا يتقن جمله ونبرته يخيط أبداعه على شكل خليط متعدد الأمزجة. نبكي في لحظة الفرح ونسخر في قمة السوداوية.
مسرح التجلي
عادل كرم يتوازى مع خباز في مسرح التجلي يلتقيان عند متراس البوح يخوضان معاً انكشاف الذات والجمهور يتفرج على المعاناة والاحلام ويتواطأ معهما يصبح الكل معنياً بهذه المشهدية التي هي حياتنا التي مرت وما زالت تمر.
عمل مسرحي أتى من ظلام كتبه ونسجه جورج خباز من أغاني وموسيقى ونهفات وسرد. وعندما قدمه على المسرح بات ضوءً هذه قدرة خباز على عجن المرّ ليصبح خبزاً محلى. يقدم رسالة اقتبسها من الواقع ويعرضها على شكل مثال لتصبح درساً يعصف بنا ويحولنا من مشاهدين إلى معنيين علينا فعل التغيير.
قرابة الساعة والنصف وخباز وكرم يتناحران ثم يتعانقان، يفزعان من بعضهما ثم ينصهران، ينكمشان ويبكيان ثم ينتفضان كنمور. خليط أشبه بلعبة محكمة الاقفال والالغاز يفكون شيفرتها أمام المشاهد وهما يتقشران من دواخلهما وفي هذا التقشير نتماهى.
قصتهما تشبه قصصنا جميعاً لا بل هي قصة كل لبناني. لكن خباز وكرم يأخذونا بأيدينا حيث يجب أن نكون. شعب يجب أن يصغي لسليقته وفطرته بعيداً عن كل الانتهازيين الذين جرجروا الشعب في معارك كاذبة ونفعية.
ساعة و20 دقيقة من المشاعر المختلطة
ساعة ونصف، خباز وكرم يستنزفان كل المشاعر بأسلوب فنان متمرس يدخلك في محاجر الأسى فتهبط الدمعة ثم يستل السخرية في وسط الكابوس المؤلم فتغشى من الضحك. وهكذا يتناوبان على المسرح ينحتان بسحرهما كل شعور ممكن. والجمهور الذي ملأ الصالة الكبيرة بطوابقها الثلاث مستسلماً للرؤية مندهشاً للأداء.
حكاية أربعون سنة من وطن تختصر كالبرق على خشبة المسرح، والذهول يعم الأجواء. حكاية حزينة لكنها ندية وجليلة ومعقمة بروح الجمال والتوهج والصدق. فتصبح وارفة وواحة تجلي تشعر بعدها بودك أن تعانق الجميع تمد يدك لذاك الغريب الذي يقعد بجانبك تشعر بالتماهي معه.
العرض يبدأ لحظة انتهائه
ينتهي العرض لكن في الحقيقة ابتدأ تخرج من الصالة تنظر إلى خليج جونية الذي يحضن بيروت ببؤبؤ عينه ويضمها كقوس داخل تكوره تلقي نظرة نحو كل هذا الجمال والاضواء المتراخية لمدينة يصعب هزيمتها وتقول ماذا فعلوا بنا ترمي نظرة لمن يحف أقدامه بقربك وتجده أقرب من روح الروح.
تخرج من الصالة وفيك شيء من الهزيمة لكنك مليء بالحب. تدرك أن هذا الحب وحده حبل خلاص. تدرك الحقيقة كلها فكل الذين ضحكوا وبكوا وصفقوا في المسرحية أدركوا معك سر الحقيقة التي ارداها عادل كرم وجورج خباز أن تصل ووصلت. وهي أن الأكاذيب التي اخذوا منها شعارات لحرب سميت “وطنية “لم تعد تنطلي على أحد.
وإن المواطن الذي يتعذب بسبب نفاق السياسة حمار. وكل الشرفاء حمير. وكل الشرفاء مغرر بهم. حان لنا أن نفهم وفهمنا.