15 ديسمبر 2023
نص خبر – القاهرة
عدد محدود من الأفلام قدمها المخرج داوود عبد السيد خلال مسيرته الفنية لكنها كانت كافية ليصنع تاريخه السينمائي كصاحب أسلوب فني مختلف في إخراج أعماله،وتجربة متفردة شديدة الخصوصية والتميز في نفس الوقت، حيث تم اختيار فيلمين من أفلامه ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العربية ومنها “الكيت كات” و”أرض الخوف” ، وشهدت مسيرة المخرج المصري العديد من المحطات في مشواره الذي بدأه منذ ستينات القرن الماضي.
المفارقة أن داوود عبد السيد المولود في 23 نوفمبر /تشرين الثاني عام 1946 وهو أحد أهم مخرجي جيل الثمانينات، وقدم أفلام من أيقونات السينما المصرية،لم يكن ضمن طموحاته أن يحترف الإخراج السينمائي فكان يهوى الكتابة ويرغب في أن يصبح صحفيا.
ولكنه تعرف على هذا العالم من خلال ابن خالته الذي كان يهوى الرسوم المتحركة وقام بشراء كاميرا كانت الوحيدة في العائلة، وهى الكاميرا التي بدأ داوود من خلالها اكتشاف العالم بتفاصيله، وأصبح شغوفا بتصوير كل ما يصادفه، ثم ذهب معه في أحد المرات إلى إستوديو جلال وشاهد تصوير مشاهد من فيلم للمخرج أحمد ضياء الدين فانبهر بالسينما وقرر دخول معهد السينما، فحصل على بكالوريوس الإخراج السينمائي عام 1967، وفي أواخر الستينات بدأت مسيرة داوود عبد السيد في الفن لكن كمساعد مخرج فعمل مساعدا لكمال الشيخ في “الرجل الذي فقد ظله”، ومع يوسف شاهين في “الأرض”.
الصراع بين الحداثة والرجعية في أفلامه التسجيلية
في منتصف السبعينات قرر أن يرصد المجتمع والشارع المصري وقضايا البسطاء من خلال أفلامه التسجيلية التي قدمها في هذه المرحلة وهى المرحلة التي شكلته سينمائيا حيث تبنى قضايا البسطاء في أعماله الروائية الطويلة لكن بأسلوب سينمائي مختلف.
وهى الفترة التي عمل خلالها موظفا في هيئة السينما والمركز القومي للسينما التسجيلية، وقد أخرج ثلاث أفلام تسجيلية هى “وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم”، ويتناول أوضاع التعليم في إحدى القرى المصرية الفقيرة بمحافظة كفر الشيخ. “العمل في الحقل” ويتناول أعمال الفنان التشكيلي حسن سليمان الذي اهتم برصد حياة الفلاحين والبسطاء، و”عن الناس والأنبياء والفنانين” الذي يتناول أعمال فنان تشكيلي آخر هو راتب صديق وزوجته الفنانة عايدة شحاتة.
ويقول الناقد السينمائي عصام زكريا لموقع “نص خبر” بأن الأفلام التسجيلية لم تكن ملعب داوود عبد السيد ولم يجد نفسه فيها، وربما كانت مثل مهنة مساعد المخرج التي مل منها وهى الطريق التقليدي والمباشر لدخول الصناعة والاستعداد ليصبح المرء مخرجا، لكن أى عمل لا يتضمن التعبير عن الأفكار والمشاعر الذاتية لم يكن يستهوي داوود عبد السيد، ولذلك هو واحد من المخرجين المؤلفين القلائل جدا في السينما المصرية الذين لم يخرجوا أعمالا من تأليف غيرهم (باستثناء “أرض الأحلام) ولم يكتبوا أعمالا لمخرجين آخرين.
وأضاف :مع ذلك يمكن العثور على بعض بصماته الشخصية في الأفلام التسجيلية الثلاثة، خاصة حين نضعها داخل السياق العام للمناخ الفني والثقافي والسياسي وقتها، فنحن نتحدث عن النصف الثاني من السبعينيات..و جيل تفتح وعيه على هزيمة 1967، واستعاد الثقة في 1973، ولكن سرعان ما بددت سياسة الانفتاح الاقتصادي والسلام المتعجل مع إسرائيل هذه الثقة.
وفي الأفلام التسجيلية الثلاثة لداود عبد السيد يمكن العثور على بذور الموضوع الأساسي الذي يشغل معظم أعماله: الصراع بين الحداثة والرجعية، وأزمة المثقف والفنان الواقع بين سندان السلطة ومطرقة الجمهور، وتتجلى هذه الأزمة في فيلمه الأول “وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم”، الذي يتناول موضوعا تسجيليا “عاديا” قام بتحويله عبر الشكل وتقنيات السيناريو إلى عمل جدلي مثير للقلق لدى المشاهد مهما كان انتماءه الفكري والسياسي.
كما طوع أفكاره الخاصة في فيلميه اللاحقيين رغم انتماءهما لنوعية أفلام عن الفنانين، وصبغهما بعالمه خاصة فيلمه عن حسن سليمان الذي يتحول إلى فيلم عن رحلة داود عبد السيد بحثا عن نفسه وصوته، وهي الرحلة التي طالما تناولتها أعماله الروائية التالية.
لغة سينمائية تتأمل الحياة والإنسان
9 أفلام روائية في مسيرة داوود عبد السيد السينمائية هى “الصعاليك” عام 1985، و”الكيت كات” 1991، “البحث عن سيد مرزوق” 1991، و”أرض الأحلام” 1993،”سارق الفرح” 1995، “أرض الخوف” 2000، “مواطن ومخبر وحرامي” 2001، “رسائل البحر” 2010، “قدرات غير عادية” 2015، تكشف عن صانع سينمائي مهموما بتأمل الحياة والإنسان.
داوود الذي حصل على العديد من الألقاب مثل “شاعر السينما” و”فيلسوف السينما” ينتمي لجيل الواقعية الجديدة الذي ظهر في الثمانينات، قدم تجربة سينماية فريدة اعتمد خلالها على الواقعية السحرية، فبطل أعماله هو الشخص المهمش على جانب الحياة، وفي الخلفية المكان والذي يربطه بشخوصه من خلال السرد السينمائي، وبصيغة سينمائية اتسمت بالبساطة والعمق في نفس الوقت قدم داوود في تجاربه ال9 قضايا غير مستهلكة سينمائيا، تعبر عن البسطاء والحرية، فكان يربط أبطاله بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولم تخلو أفلامه أيضا من الإسقاطات السياسية.
واصطدم داوود عبد السيد مع الرقابة أكثر من مرة، أبرزها أثناء فيلم “أرض الخوف” فقال في لقاء له مع الإعلامية لميس الحديدي في برنامج “كلمة أخيرة”، بأن الرقابة كان لديها تخوف من القصة والتي اعتبروها بأنها تصور وزارة الداخلية لم تساند أحد ضباطها، لكن قام الرقيب وقتها علي أبو شادي بحل الأزمة .
الإعتزال ..صيحة احتجاج
خلال مسيرته حصل داوود عبد السيد على العديد من الجوائز والأوسمة، فمع فيلمه الأول “الصعاليك” والذي حصل على جائزة العمل الأول من مهرجان أسوان الأكاديمي، و”ارض الخوف” الذي حصل على جائزة الهرم الفضي من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وجائزة السيناريو من مهرجان البحرين الأول، واختيار و”الكيت كات” و”أرض الخوف” ضمن قائمة أفضل 100 فيلم عربي، وتكريمه في الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي، ومهرجان قرطاج وحصوله على جائزة النيل في الفنون.
هذه التكريمات لم تبعد داوود عبد السيد عن الاحباط الذي عانى منه، وابتعاده الإجباري عن السينما حيث قدم آخر أفلامه “قدرات غير عادية” في 2015، فأعلن الاعتزال في 2022 في لقاء له مع برنامج “المساء مع قصواء” موضحا بأنه لا يستطيع التعامل مع نوعية الأفلام التي يفضلها الجمهور في المرحلة الحالية، وقال بأن الجمهور أصبح يبحث عن التسلية وليس مناقشة القضايا.