د.شربل داغر: وسائل التواصل صورة مضخمة عن تجليات التقليدية العربية، و”الشعبوية” المقيتة فيها
15 مايو 2023
حاوره: هاني نديم
د.شربل داغر من القلة القليلة التي ظلت لنا من جيل أدبائنا المخضرم. إنه أحد أساتذتي الشخصيين ونماذجي التي أستنير بآرائها وبحوثها وإبداعها. يحمل داغر شهادتَي دكتوراه، واحدة في الآداب العربية الحديثة وآخرى في فلسفة الفن وتاريخه وله ما يزيد على ستين كتابًا باللغتين العربية والفرنسية. وما زال منتجاً لا يكلّ ولا يملّ وناشطاً يعمل بكل دأب وهمة في الترجمة والنقد والرواية والشعر والفلسفة.
حاورته حول النقد العربي وهمومه وعن مشاريعه الشخصية في هذه الدردشة:
- بدايةً، كيف تصف علاقتك مع وسائل التواصل، وكيف هي علاقتك بالصحافة العربية من جهة أخرى؟
– علاقتي بوسائل التواصل الاجتماعي لازمة ومتأزمة في آن. لم أتردد، منذ أواسط الثمانينيات، في الالتحاق بعالم الحاسوب، فيما كان يندهش من هذا عددٌ من الأصدقاء والزملاء، بحجة أنني كاتب، وأن الكاتب ينتسب حكما إلى عالم الورقة والقلم. قراري هذا أتى غريبا لي، ما دمتُ اشتريتُ قبل ذلك بسنوات آلة “دكتيلو” من دون أن أتمرس بها، أو أن أعتاد عليها مطلقا: ضربتُ فوق تلك الآلة الباردة قصيدة آلية!، أي بتلقائية شديدة، لكنني ما لبثتُ أن أتلفتُها من دون أي شفقة، كما أزحتُ الآلة من مكتبي، وركنتُها في زاوية، من دون أن أعود إليها بعد ذلك. أما مع الحاسوب فكانت التجرية مثمرة، إذ تسجلتُ في دورة مهنية للتدرب عليه، أمام دهشة مزيدة من القريبين مني. كان قراري هذا مفاجئا، لكنه بدا لي… طبيعيا، أي يوافق نزوعات داخلية جعلتني أنغمس في ما بدا لي – في قناعاتي وقراءاتي – مثل عزم يوافق ميلي إلى أفق آخر للنشاطية الإنسانية. هذا ما لم أنقطع عنه منذ تلك السنوات الباريسية البعيدة… هذا الانغماس الشديد في عالم الحاسوب جعلني أعهد إليه بكل ما أكتب، من القصيدة إلى البحث مرورا بكل الأنواع الكتابية التي أُقبلُ عليها. وهو ما بلغ أيضا تأسيسي لموقع إلكتروني يشتمل على سيرتي ونشاطاتي وكتاباتي وما يُكتب عنها…
مع هذا، ترددتُ بل امتنعتُ عن الانخراط في عالم التواصل الاجتماعي، ولا سيما في الفيس بوك. امتنعتُ لسنوات وسنوات، على الرغم من إلحاح غير ناشر ممن ينشرون كتبي علي بلزوم المشاركة، وبالفائدة منها. هذا ما انسقتُ إليه قبل سنوات قليلة، وتحققتُ فيه من فائدته ونفعه، من دون أن أجد فيه ما يريحني ويقوي من عزيمتي في الانغماس الذي أرغب فيه في الزمن، ومع المتحاورين البعيدين وممن لا أعرف. لعلي أقسو أو أتحفظ بقوة على ما أعيش في هذا التواصل… غير أن هذا لا يُبطلُ قناعتي بأنني أجد فيه صورة مضخمة ومعبرة عن تجليات التقليدية العربية، وعن تعابير “الشعبوية” المقيتة فيها. هذا ما أعايشه في الفيس بوك منذ أكثر من سنة، حتى إن إسهاماتي فيه تضاءلت للغاية، من دون أن أنقطع عنه. اما عن علاقتي بالصحافة، فهي لا تزال قائمة وإن باتت متباعدة، تقتصر على مقال أسبوعي وحسب. مع ذلك تشدني إلى أيامي في الصحافة العربية ذكريات مليئة بالفضول والشغف، لدرجة أنني رفضتُ عرضا للتعليم الجامعي في جامعتي الباريسية، بعد تحصيلي لشهادة الدكتوراه في العام 1982، مخافة أن أُفسد مزاجي المغامر. هذا “النبض” القديم في الزمن، ومعه، هو الذي قادني، وجعلني أتشوق للتقدم في اتجاه ما لا أعرفه. كانت أعوامي في الصحافة أقرب إلى تجربة حياة، إلى بناء شخصيتي من جديد، إلى “جامعة” أخرى بالأحرى… هذا ما يفسر انغماسي فيها في ميادين كتابية عديدة، التي كانت، على الأرجح، بمثابة التجريبات الاولى لما ستؤول إليه انشغالاتي الكتابية المتعددة اللاحقة.
هنالك أطروحات وبحوث محكمة أقل نفعاً وفطنةً من بعض المتابعات الصحفية
الفادح في عمل النقد افتقاره الشديد إلى سردية تاريخية مناسبة لتجليات هذا الأدب، ولمسارات الأنواع الأدبية فيه.
– الجواب يحتاج إلى إحاطة، بل إحاطات، تتعدى قدراتي، وثقافتي من دون شك. ما أقوى على قوله يبقى جزئيا بالضرورة، ويستند إلى تلمسات بحثية ليس إلا. لهذا أثير أسئلة، على أنها تشتمل ضمنيا على الأقل على بعض ما أتلمسه. المشهد يتبدل بقوةٍ وتسارعٍ ابتداءً مما أحدثتْه الثورة الإلكترونية، بأدواتها التواصلية المختلفة. الكتاب تبدل، والقارئ كذلك. العادات والسلوكات الاجتماعية والثقافية المحيطة بالكتاب تبدلت بدورها. يكفي أن نراجع عمليات النشر بين ما كانت عليه في الستينيات والسبعينيات وبين ما صارت عليه في العقود الثلاثة الأخيرة، لكي نتيقن من أحوال التبدل وتجلياته:
- أي كتاب يبلغ في طبعته الأولى الألفي نسخة مثلما كان عليه في السابق؟
- هل يقوى الشعراء على طبع مجموعة في أكثر من خمس مئة نسخة، وعلى نفقتهم الخاصة في الغالب؟
- هل تُقدم دور النشر على طباعة الكتب البحثية في درس الشعر كما في العقود السابقة؟
- هل تُسهم وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج للكتاب أكثر مما كانت توفره المتابعات النقدية في الصحف والدوريات سابقا؟
- ماذا عن شيوع العامية المتعاظم، وتراجع الاشتراطات “الكتابية” في وسائل التواصل الاجتماعي، وعن تأثيرات هذه على عالم الكتاب والقارئ؟
- سؤال أخير.. في هذا الطوفان في الكتابة والنشر، كيف تقرأون المشهد الأدبي العربي، وما هو مشروعك بعناوينه العريضة إن جاز لي مثل هذا الطرح؟