د. موسى عباس: العقد الأخير في التراجيديا السورية هو الأهم في التاريخ السوري الحديث

1 أغسطس 2023

حاوره: هاني نديم

في تصورٍ لغوي لافت ومن منطقة خاصة في الكتابة، يقدم د.موسى عباس أعماله الأدبية ويضعها بين يدي القراء دون صخب الكتاب المعروف كلما أصدروا كتاباً، حينما قرأت مجموعته القصصية “هداليش” وقعت في غرام معجمها المحلي والإحالات المناطقية التي تشير بيدها بعيداً نحو سرد الشعوب البعيدة ذاتها في كل الكوكب، إنما بخصوصية هائلة. 

التقيته في هذه الدردشة حول الكتابة واللغة والسرد وسوريا. سألته:

  • حيث لا بد من ذكر الأدب السوري في العقد الأخير، كيف ترى تغيراته البنيوية والقصدية، كيف تقرأ المشهد السوري اليوم ؟

– العقد الأخير في التراجيديا السورية هو الأهم في التاريخ السوري الحديث، وفي بحيرة الدم التي غرقنا بها شهد الأدب السوري تغيرات عميقة في المضمون والأسلوب والانتشار، حيث شهدنا تراجعا وانكشافا للأدب المؤدلج والمحسوب على اليسار خصوصا، إذ تبين أنه يسبح في بحيرة ضحلة، وأن رموزه مطمئنون إلى تكريسهم، والهالة الإعلامية التي تحيطهم بها مؤسسات ثقافية وإعلامية مؤطرة بصورة أو بأخرى، ويترك لهم هامش ما للمناورة، لكيلا تنكشف عورات أقلامهم، مقابل ذلك تعرفنا بصورة أعمق على أقلام موهوبة وصادقة الانتماء لأهلها وبلادها، وقد نأت بنفسها عن تلك البحيرة.

كثيرا ما ترتفع أصوات تشتكي من الطفرة التكنولوجية في عالم النشر.. في الحقيقة قد يكون لهذا وجه آخر، أحصى الأديب والناقد نبيل سليمان ما يفوق ( 400 ) عمل إبداعي خلال هذه الحقبة، وما الضير في ذلك؟!  هل علينا أن نستأذن رقيبا موتورا في مؤسسة بائسة مكلفة بشرطة الثقافة أن تقول لنا ماذا نكتب، ولا نكتب؟! دور النقاد فرز هذه الأعمال وبيان الغث من السمين، ومن يستحق الإشادة والاهتمام ينالهما، أرى أن الرواية السورية والقصة، بل والشعر أيضا، قدمت هذه الفنون مجتمعة الرواية الأخرى للمقتلة السورية، مقابل رواية الإحالة إلى المجهول، والفجائعيات التي لا تقدم ولا تؤخر، والاختباء خلف قبر ماركس أو أنطون سعادة.

في هذا العقد الذي نتحدث عنه تعرفنا على أصوات هامة لم يكن متاحا لها الاهتمام واللمعان، سعدت بمتابعة إبداعات الروائي السوري الكبير فواز حداد، والراحل خيري الذهبي، زكريا تامر، خالد خليفة، هيفاء بيطار، سوسن جميل حسن، شادية الأتاسي، ابتسام تريسي، مها حسن، جان دوست، هيثم حسين، سلوى زكزك، معبد الحسون، خليل الرز، على سبيل المثال ، لا الحصر، … والعشرات من المبدعين الذين انطلقوا في أجواء الحرية وهي شرط الإبداع الأهم.

قدم الأدب السوري الرواية الأخرى للمقتلة السورية، مقابل رواية الإحالة إلى المجهول، والفجائعيات التي لا تقدم ولا تؤخر

  • “هداليش وقصص أخرى” نموذج لمعجمك الناضح بالمحلية، هل ترى ذلك اشتراطا لعمل متجاوز؟  فردانية المفردات والأمثال والقص؟ حدثني عن هذه المجموعة وعن علاقتك مع اللغة والكتابة بشكل عام؟

– اسمح لي صديقي ابن النديم أن أذكر وجهة نظري حول العالمية والمحلية، أرى أنني كلما كنت محليا صادقا عميق الجذور في بيئتي اقتربت من العالمية، العالمية ليست أن تكتب بلا رائحة أو طعم، أستطيع أن أكتب عن النسوية وحقوق الحيوان والتغيرات المناخية، ترى هل أكون عالميا؟ هل كان يمكن لنجيب محفوظ أن يكون عالميا دون أن يكتب عن أزقة القاهرة وحرافيشها؟ وماركيز دون أن نشتم روائح أمريكا اللاتينية من سطور عزلته وجنرالاته؟ لذلك في مجموعتي ( هداليش وقصص أخرى) وغيرها من مجموعاتي القصصية، كنت أمسك بتراب قريتي( كسرة مريبط) وأغتسل بماء الفرات، وأرشه بين سطورها وكلماتها، لعل أهلي يجدون ريحها في تلك القصص، أو الروايات… وما أحزنني أن الكثير من أهلي أميُّون، الجديد في هذه المجموعة تناولي الأسطورة المحلية وأنسنتها – إن جاز التعبير- لتكون مشيجا في جسد القصة تضع حمولتها الرمزية للوصول إلى قصة خالية من الثرثرة وفضول القول، وعميقة في الوقت عينه، المكان كان له أهميته فيها، شخوص القصص يتحركون، لكنهم مشدودون بحبل سري للمكان الأول.

يبدو للمتلقي أن هذه القصص منفصلة، نعم، ولا، فهي تشكل رواية لإنسان بلادي المقهور الذي يعرف أن لجدرانه ألف أذن، وأنَّه يعيش في غابة من المُخبرين، وهو يسابق الزمن؛ ليبقى على قيد الحياة، وحسب!

اللغة العربية بالنسبة لي هواء أتنفسه، أعيشه كدرويش في حضرة مولاه، قلت عنها يوما في لقاء صحفي، “العربية يجري عليها معايير الصَّاغة، لا مكاييل الباعة” المفردات المحلية التي تأتي في ثنايا الحوار أحيانا هي من فصيح العامية، أرى أنها تبثُّ الدفء في القصة، وتجعلها تتواضع قليلا لمتلقيها، وتستقبله على الباب بدلا من التلويح له من بُرجها العاجيِّ.

كنت أمسك بتراب قريتي( كسرة مريبط) وأغتسل بماء الفرات، وأرشه بين سطور كتاباتي وكلماتها، لعل أهلي يجدون ريحها في تلك القصص

  • بعيدا عن الأدب والكتابة، كيف يعيش د. موسى ، ما هي هواياتك، آمالك، أصدقاؤك ومباهجك؟

– بعيدا عن الأدب والكتابة موسى رحوم عباس نصف بدوي تقاعد في مملكة السويد، بعد أربعين سنة عمل في المملكة العربية السعودية التي أحبها،  يشتكي البرد معظم الوقت، يتعلم اللغة السويدية في الصباح وينساها في المساء، يقوم أحفادي على تعليمي، بينما يداري أبنائي ضحكاتهم، يبكيني منظر خيمة وطفل شبه عار أمامها، ويثير سخطي تاجرٌ ولصٌّ برتبة مُعارضٍ أو مُوالٍ، وقائد أو زعيم يناضل لتحرير القدس من الميادين وجسر الشغور، الأدب والقراءة خصوصا هما لبُّ بقائي على قيد الحياة، لا أكتب إلا تحت ضغط الكتابة وهاجسها الممضِّ، تلك الهواية التي تستنزف طاقتي، وتتركني أحترق مضطربا باحثا عن التوازن، يمكن أن أقول إن الكتابة هي ما أبقت عقلي هادئا حتى الآن، ولو حُرمتُ منها، ربما كنتُ الآن متجولا في شارع تل أبيض، واضعا كل ما أملكه في كيس قماش من التي توزعها الأمم المتحدة على شعبنا اللاجئ والمهجَّر من أرضه، ممهورة بحرفي ( UN  ) أبحث عن مكان أنام فيه.

أما المباهج فهي كل ما تجود به الحياة عليَّ، حفيدي الذي يقبِّل رأسي، وحفيدتي التي تعلمني لفظ كلمة “أحبك” في السويدية، وسؤالك يا هاني لي أين كنتَ مختبئا؟ رغيف خبز صاج، شجرة بيتي التي كبرت رغما عن العسكري الذي يحتله منذ سنوات وقبله داعشي أيضا، أترى كل هذه المباهج يا ابن النديم؟!

بيتنا كان خاليا من الكتب عدا المصحف الشريف، أبي وأمي أميان، وأنا لم أكن متفوقا

  • لماذا تأخرت؟ نحن لا نعرفك؟

– قد أكون تأخرت، لكنني لستُ ممَّن نام، وأصبح حافظا للقرآن، كما كانت أمي -رحمها الله – تقول عن شيخ يكتب الرُّقى للمرضى، ومن تأخر إنجابهن، تخرجتُ في جامعة حلب 1980 لم أترك القراءة يوما، قراءاتي انتقائية، جدتي لا تعرف الحكايات، وبيتنا كان خاليا من الكتب عدا المصحف الشريف، أبي وأمي أميان، وأنا لم أكن متفوقا، ربما كتبتُ الكثير، ونشرتُ ما أقنعني، وأحسستُ أنني أتحدث فيه بصوتي الخاص، هكذا خُيِّل أليَّ، لستُ راضيا عن أيِّ كتاب صدر لي، علما أنَّ روايتي ” بيلان” وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب  2012 ، وكلما بدأتُ عملا جديدا، ينتابني الخوف والهلع أحيانا، متسائلا ما الجديد؟ ما هي الإضافة عما سبق؟ بدأت بالشعر، لكن الرواية والقصة القصيرة طوقتاني بسحرهما لدرجة الأسر.

  • أنا والرقابة والأدباء

– عشت معظم حياتي في الرياض، بعيدا عن بلادي، لكنني تعايشت مع ذلك الرقيب الذي يجثم على صدري، احتال عليه، أراوغه أحيانا، الآن واليوم في السويد لدي مساحة واسعة من الحرية، في بلادٍ لستُ مهتما باسم ملكها أو رئيس وزرائها، هم مجرد موظفين لدى الناس، ويأخذون رواتبهم من ضرائبنا، أخشى أنني مازلتُ لم اتخلص من ذلك الرقيب تماما، مازلت أحاول الانطلاق إلى رحاب إنسانية أوسع، وللأسف اكتشفتُ أنَّ أدبنا العربي ما زال شبه مجهول، حتى أولئك الذين صدعوا رؤوسنا بعالميتهم المزعومة، لا أحد يعبأ بهم.

عندما أنغمس في فعل الكتابة لا أكترث لأيِّ رقيب، أكتب ما أجده معبرا عني، بعيدا عن الرقابة أو الجوائز، أو من يقف خلفها، لا أبحث عن الشهرة في هذا العمر؛  فأنا رجل صامت معظم وقتي، أحارب الصَّمت بالكتابة، تسعدني كلمةٌ عذبة يقولها البروفيسور حبيب عبد الرب السروري عن هداليش: ” عندما تقرأ قصة من هذه المجموعة عليك أن تربط أحزمة قلبك…” أو الروائي فواز حداد الذي يشجعني بعباراته الرقيقة، أرأيت كم أنا طفل كبير، ترضيه كلمة دافئة، وتجعله ينام هانئا؟!

 

السويد، إسكلستونا

قد يعجبك ايضا