بين صحافتين – رشا قنديل

رشا قنديل – إعلامية مصرية

ماذا تبقى لنا من الصحافة؟ كل شيء في الواقع. لا ينقصنا إلا إعادة مأسسة الصحافة كمهنة أخلاقية بالأساس. بعد ذلك يُسترد كل شيئ اعتقدنا أننا جُردنا منه في الاستبسال لطوفان الصحافة المعلبة والسباق المحموم على الربحية وكثافة المتابعة والانصياع التام للرائج.

 بموضوعية لا تبحث عن تسويات سهلة، أقول إن الصراع بين الرائج والأصيل ليس بالجديد. لا ندعي امتلاك الحقيقة على إطلاقها ولسنا من الأصوليين الدوجمويين، ولا أظن أن أيا ممن يُصنفون في حرفتنا صحفيين حقوقيين يرون في أنفسهم أبطالا مغاوير. كنت في الصف  باكرا أعتقد أن سيوفنا عادة خشبية وفي طرفها محاية. امتدت بي التجربة التي لا زلت في منتصفها على ما آمل لترأف بنظارتي السميكة وتصقل رؤيتي لسلاحنا الثابت الأسود المحفور إلى حين على وجه الزمن

 لم يعد هناك متلقٍّ مصمتٌ يستقبل ولا يرسل. ثار التواصل على ما يراه مناصروهأصول الصنعةوانحازت الصحافةالرقمية المبرمجةإلى الأخبار الخفيفة ثم المثيرة، من ثم الغرائبية وقد تُستبدل الباء بما شئت من أحرف. حتى إنها تنكرت لاسمها وسمت نفسهاإعلاما رقميااستمر تحوره حتى نبت له ما بات يصطلح عليه بصحافة الترند“.

 لكن حتمية التغيير لا تعني بالضرورة طمس الكل للكل. فتفاعل المتلقي مع الصحفي لا يعني بالضرورة انتفاء الصحفي وما يقدمه للسرديات من صيغة وثقل. وبالتأكيد لا يعني انصياع الصحافة للعدادات وربحيةالمحتوى“. ببساطة غير مخلة، لأن الصحافة ليست سلعة استهلاكية بالضرورة، على الرغم من كل الضغوط: سياسية أو تجارية أو حتى الضغوط التحريرية المؤسساتية.

 بثبات التجربة شاهدةََ على ثورة الألفية الثالثة منذ بدايتها علىالصحافة التقلدية“- وإن كنت أنا بصفتي المهنية أراهاالصحافةوكفىبثبات تلك التجربة لم تفلح رياح الرقمية والاستهلاك السريع والبحث عن الأسهل حتى الآن في اقتلاع الصحافة واستبدالها بنماذج أكثر ثباتا.

 أنبتت أنماط الصحافة الجديدة مسالك مهمة لا ينكرها الصحفي الثوري. صحافة المواطن مثلا على علاتها كانت من أهم إنجازات الحراك الثوري السياسي والاجتماعي خلال العقد الفائت. البث الحي على كل هاتف من موقع الحدث بتقنيات لم تكن متاحة في سابق عهد صاحبة الجلالة. التحايل التقني على القمع والحجب بكل أشكاله في محاولات يائسة بائسة للتعتيم على أسوأ الانتهاكات وأشرسها.

 أما عن استهداف الصحافة والصحفيين فلا جديدا هنا ولا تصعيدا. كنا ولازلنا وسنبقى هدفا للتشويه والتعريض والتهديد والتحريض وحتى التصفية المباشرة. احتفلت الأساليب والخوف واحد. لحسن الحظ أو سوئه الصحفيون كالمؤرخين، لا ينسون. والزمن بيننا.. بين صحافتين.

 

قد يعجبك ايضا