20 سبتمبر 2023
حاوره: هاني نديم
من وجهة نظري، فإن الشعر يستلزم الموسوعية، إذ لا تكفيه اللغة كحامل وحيد، حيث تطير المعارف والثقافات المتعددة بالنص الشعري إلى أماكن بعيدة لم يكن ليفكر فيها الشاعر نفسه. وأحد نماذجي في الاستدلال على هذا د.سراج محمد فهو مشروع خاص من الكتابة والمعرفة والمقاربة والتوظيف. شاعر وناقد وناشط في الثقافة العراقية والعربية بكل ما أوتي من قوة.
التقيته في هذه الدردشة.. سألته:
- كلما قرأت لك، تساءلت في نفسي، يا آلهي؛ كيف بدأ هذا المشروع الشعري ومن أية قماشة ومعجم ومرجعية.. حدثني عن البدايات وحدثني عن هذا التوازن البديع في كتابتك للنص النثري في أجمل تجلياته إلى جانب العمود المختلف جدا.
– كنت في الرابعة عشرة، حين أدركت أنني قادر أن أحوّل الكلام العادي إلى كلام خالد ومشهور، وكنت أرى ذلك في ردود أفعال الرفقاء والأهل، بعد أن قرأت الشيء اليسير من الكتب التي كانت أكثر من أثاث البيت، كنت أراقب والدي وهو يجلس لساعات متأخرة يقرأ ويدوّن، فقادني الفضول لما يدوّن، كنت أتصفح سجلاته فتقع عيني على إحالات في الفلسفة والتاريخ والأدب، وهو ما اختصر عليّ الطريق في اكتساب المعجم الخاص، وأتاح لي اختيار ما يتوجّب علي أن اقرأه، فبدأت رحلتي بالقراءة والتدوين كذلك، ومن ثم اخترت نماذجي الخاصة من المؤلفات.
في تلك السنة تحديدا، بدأت أبحث عن أماكن وجود الأدباء، ومن حسن الحظ، كان الشاعر القدير هزبر محمود يسكن الحي الذي أسكنه، وكنت أعرض عليه ما أكتب، بعدها بدأت ارتياد مقهى الأدباء في مدينة كركوك، فتعرفت على المسرحي قاسم حميد فنجان، والشاعر الراحل رعد مطشر، حتى تجرأت أن أعرض عليه ما كتبته، فسلمته دفترا صغيرا، وطلب مني أن أعود بعد أسبوع، فوجئت بعدها أنه نشر لي نصا في الجريدة المحليّة، فأصبت يومها ببهجة مفرطة، دفعتني لشراء نسخا كثيرة من الجريدة، وتوجّهتُ له، فأخبرني أني أحمل كيلوغراما من الذهب، ولكني لا أحسن صياغته كما ينبغي، فطلب مني الاستمرار بالقراءة، ومن ثم دعاني للعمل معه في الصحيفة، ونشر لي نصوصا في صحف عراقية وعربية، ولعل الذي دفعني للتجريب والانتقال بين الأشكال الشعرية، هو الوعي الذي أكسبنياه النوع القرائي، ككتب النقد الأدبي والفلسفة وكتب الأدب عامة، فأدركت أن الشعر لا يكمن في إطاره الشكلي، بل لا يجب أن يكون في الكتابة وحسب، بل في كل ما يستلزم خرق المواضعة الطبيعية للأشياء بالمنطق “البارتي”، وهذا ما دفعني لفعل الشعر وعيشه قبل كتابته.
وجدت نفسي محاصرا بالمواويل والأبوذيات ونوح الأمهات وهفهفة القصب والبردي، وصوت المشاحيف في نهر دجلة والأهوار
- حدثني عن البصرة وتلك المحلة التي أنجبت كل هذا الجمال، عن الخشابة والمواويل والأبوذيات والأطوار.. أحب أن أراها بعينكم
– ولدت في البصرة، في الموانئ تحديدا، الموانئ في البصرة: مشفى ومرسى لإيصال البضائع، أنا ولدت في الفئة الأولى، في شتاء 1982، وكانت تقع في حي المعقل، حيث كنا نسكن وقتذاك، وكانت الحرب العراقية الإيرانية قائمة، لكن وجودي في البصرة لم يدم طويلا، بسبب وظيفة والدي في طيران الجيش، والتي كانت تستلزم انتقاله إلى قواعد جوية مختلفة في العراق، فانتقلنا إلى بغداد، ومن ثم إلى الموصل، وبعدها استقر بنا الأمر في كركوك، حيث وعيت هناك وبدأت دراستي الابتدائية والثانوية، حتى تم قبولي في كلية التربية بجامعة ميسان (مدينة العمارة)، فأكملت دراستي هناك، وقد سكنت عند أخوالي، حيث الشاعر القدير (رعد زامل)، وماذا يريد الإنسان غير أن يكون في العمارة؟! فالناس هناك يتعاطون الشعر بلغتهم النفعية، وقد أحرجوا الحزن بطور المحمداوي، النغم الذي يفتق خاصرة الصبا زمزم، فوجدتني محاصرا بالمواويل والأبوذيات ونوح الامهات وهفهفة القصب والبردي، وصوت المشاحيف في نهر دجلة والأهوار، وهناك تحديدا كتبت تمريناتي الشعرية الناضجة، وهرولت بعيدا بمطاردة الحياة واللون والنغم والحفاظ على هذه الدرجة من الحزن المؤسس والجدير بالمتابعة، قبل أن أعود لمدينتي الأم (البصرة) لإكمال دراستي العليا في النقد الأدبي الحديث.
السواد الأعظم من الشعراء غارق بالوهم والتبذير اللغوي ومنشغل بحفلة التفاعل الإلكتروني
- كيف تقرأ المشهد الشعري العراقي اليوم ومنه المشهد العربي؟
– الشعر بتقديري، يشبه حفلا موسيقيا إلى حد ما، فيه قرار وجواب، وفيه طبالون كثر، وليس من السهولة بمكان، البتّ بأمره؛ لأسباب متعلقة بمغذيات الشعر نفسه، فالشاعر في النهاية ليس رتبة، والعمالة للغة والمخيال والأسلوب، ليس امتيازا يمكن معايرة الشعر من خلاله؛ لكون هذه المظاهر من بدهيات الكتابة الأدبية، ونحن إنما نؤشر على القيّم والنادر والفارق من الأعمال والتجارب، والأحكام التي تتعلق بها، ليست أحكاما ذوقيا، فالموهبة وحدها غير كافية لصناعة الأهمية، إن لم تكن مصحوبة بالوعي والمخزون المعرفي واللعب الحرفي خاص، وهذا يدفعني لتقسيم عملاء الشعر إلى فئتين: السواد الأعظم منه غارق بالوهم والتبذير اللغوي ومنشغل بحفلة التفاعل الإلكتروني، وهذا الوهم مصدره انعدام الوعي بالشعر نفسه، والفئة البارزة، هي الفئة الخاصة، وأصحابها قليلون جدا، أولئك الذين تعرفهم وأعرفهم جيدا، غير أن الذي سيعيد للشعر عافيته، الفئة الحالية من الشعراء الشباب، الذين خلقوا وعيهم الخاص، وتمكنوا من الإفلات من بابوية الشعر؛ بسبب الانكشاف المعرفي الذي تحققه الرقمية العالمية.
- كيف نتعرف على سراج محمد خارج الكتابة، أحزانه مباهجه أحلامه أصدقاؤه.. الخ
– أنا يا هاني العزيز، لا أجيد التحدّث عني؛ لأني لا أعرفني، أعيش حياتي كأني ذاهب لشراء السجائر، لا أجد الوقت الكافي للعيش بشكل كامل، ولا تحظى أعضائي كلها بهذا الامتياز، لدي ثلاثة أولاد وبعض السجائر وشيء من الويسكي، وزوجة غير مهتمة بالشعر، أسكن بالإيجار وأنام قليلا، وأتعاطى بعض المسكنات المثبطة للمعرفة، لدي أصدقاء كثر، أحبهم كأني أعتني بصغاري، وغالبا ما ألتقيهم عبر كتاباتهم لا في الواقع، فنحن العراقيين يقتلنا اللقاء، بسبب معجمنا المزدحم بالعاطفة العالية، تخيّل أن يقدم لك صديقك الشاي، فتقول له : فدوة أروحلك عيوني.