11 يناير 2024
صحافة العالم – سويسرا إنفو
واليوم، لا يحتضن هذا الوادي الشركات الناشئة التي يزيد رأسمالها عن مليار دولار أمريكي، أو ما تُسمَّى شركات اليونيكورن فحسب، بل هو مقرّ أيضًا لثلاث من أكبر خمس شركات تكنولوجيا في العالم: ألفابت (Alphabet Inc)، الشركة المالكة لغوغل، وأبل، وميتا، الشركة المالكة لفيسبوك. ولكنّ هذه الثروات الضخمة التي يحتضنها الوادي، لا يعمُّ خيرها على الجميع بشكل منصف.
سويسرا ووادي السيليكون متّحدان في الابتكار
فعلى الطريق الممتدة بالقرب من جامعة ستانفورد، العريقة والمُكلفة، يُركن صفّ طويل من المنازل المتنقّلة التي تأوي في المساء عائلات بأكملها، وذلك لأن ميزانياتها لا تسمح لها باستئجار منزل أو شقة في هذه المنطقة باهظة الإيجارات. وتجني هذه العائلات قوتها من بيع وجبات الطعام في الحرم الجامعي، أو العمل في السباكة، أو في وظائف بشركات التكنولوجيا. والعديد منها هي عائلات مهاجرة إلى الولايات المتحدة، ولا تُشبه في هيئتها مارك زوكربيرغ أو ستيف جوبز.
وعندما زرت فريد تيرنر، في مكتبه في قسم الاتصالات في جامعة ستانفورد، قال لي: “إنَّ الاعتقاد بأن وادي السيليكون يقوم فقط على أشخاص من أمثال مارك زوكربيرغ هو مجرّد وهم. ونحن نحاول أن نغيِّر هذا النوع من الأفكار الخاطئة”. فسيليكون فالي، معقل الشركات التكنولوجية الكبرى، يدين بالفضل لهذه العمالة، ويعتمد عليها في استمرار أعماله.
25 % هي نسبة الفقر في وادي السيليكون
على مدى عقود خلت، دأب تيرنر، الذي عمل صحفيًّا في السابق، على دراسة أثر تكنولوجيات وسائط الإعلام الجديدة على الثقافة الأمريكية. وتنتشر الكتب على أرضية مكتبه، الذي تفوح منه ذكريات السبعينات. وبينما أنا في مكتبه، لفتت نظري عناوين مثل “البشرية في الزمن القاتم”، لمؤلفّته حنَّا أرندت، و”الديانة التكنولوجية”، لصاحبه دايفد نوبل.
ويعدُّ تيرنر من الأصوات الأكثر تنديدًا بالظلم الذي تعاني منه بعض الفئات التي تعيش وتعمل في وادي السيليكون. ففي عام 2018، تعاون تيرنر مع المصوِّرة ماري بيث ميهان على إصدار كتاب تأملات في سيلكون فالي، لإلقاء الضوء على أحوال بعض أكثر ساكنيها ضعفًا وهشاشة.
ويشهد وادي السيليكون فجوة آخذة في الاتساع في الأجور بين العمالة غير الحاصلة على شهادة الثانوية وتلك الحاصلة على شهادة جامعية. إذ يُقدَّر متوسط الأجر للعمالة غير الحاصلة على شهادة الثانوية بنحو 33،000 دولار أمريكي في السنة، وهو أقل بثلاثة أضعاف، على الأقل، من أجر العمالة الحاصلة على شهادة جامعية. وكانت نسبة 23 % من السكّان تعيش تحت خطّ الفقر عام 2021، أي بزيادة قدرها 3 % عن عام 2019.
ومع ذلك، تنظر العديد من المدن والبلدان، ومنها سويسرا، إلى وادي السيليكون باعتباره مثالًا تسعى إلى الاقتداء به في تحقيق الابتكار وجني الثورات في فترة قصيرة. وقد حصدت سويسرا لقب البلد الأكثر ابتكاراً في العالم، وسُميَّت “سيليكون فالي الروبوتات”، وتسعى أيضًا إلى تطوير مركز لعمليات العملات الرقمية، وإشاعة ثقافة الشركات الناشئة. وقد حققت بالفعل رقما قياسيا في هذا المجال في عام 2023. ويرى تيرنر أن هذا البلد الجبلي في غنًى عن التعلُّم من وادي السيليكون في الكثير من المجالات.
ويذهب تيرنر إلى أبعد من ذلك؛ فهو يرى أنَّ سويسرا هي التي يُمكن أن تقدِّم بعض الدروس المُفيدة لولاية كاليفورنيا الأمريكية، وتحديدًا عن كيفية احتواء شركات التكنولوجيا العملاقة دون إثارة أزمة سكنية أو توسيع الفجوة في توزيع الثروات، وذلك بالاستناد إلى نموذج مسؤول يقوم على المؤسسات الديمقراطية.
وادي السيليكون: تاريخ من الاستغلال
تعود نشأة المنطقة المعروفة اليوم باسم وادي السيليكون إلى القرن التاسع عشر، عندما بدأ تطويرها على حساب الشعوب الأصلية التي حُرِمت من أراضيها، واستُعبِد الآلاف من أفرادها، وقد قامت أيضًا بجهود العمالة الأجنبية وعرقها، وتحديدًا تلك القادمة من الصين والمكسيك. وكانت تلك الفترة أرضية خصبة لظهور النخبة البيضاء التي كان ازدراؤها لقوانين السوق وتعصُّبها العرقي هما العاملان الرئيسيان وراء نجاحها لاقتصادي. ويذكر الصحفي مالكوم هاري في كتابه “تاريخ كاليفورنيا والرأسمالية” أنَّ العقلية السائدة في المنطقة، حتى في تلك الحقبة القديمة نسبيًّا، كانت تعتبر الثراء والمنزل الكبير مقياسًا للموهبة والنجاح.
وبدأت نشأة مركز الابتكار في سيليكون فالي مع نهاية الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة، بفضل التعاون الناجح بين جامعة ستانفورد وشركات الشرائح الدقيقة ومراكز البحوث العسكرية. وفي هذه الفترة، انتقل التركيز في استخدام رقائق السيليكون من الصواريخ إلى أجهزة الكمبيوتر. ومع بداية الستينات، توحَّدت صفوف الحركة المناهضة للرأسمالية (الحركة الهيبيَّة) والحركة التكنولوجية لتوظيف الكمبيوتر من أجل تمكين الأفراد وخدمة الصالح العام.
االآلة والأخلاق.. تحديات الذكاء الاصطناعي
وحتَّى يومنا هذا، تواصل إمبراطوريات الأعمال حديثها عن “تمكين الأفراد” و”إرساء المجتمعات”، وتواصل أيضًا دفعها باتجاه نموذج أعمال قليل القواعد. وفي الوقت نفسه تزداد الطبقة الفقيرة فقرًا والثرية ثراءً. ويُعلِّق تيرنر على هذا الوضع قائلًا: “تحوَّل الحلم بأن تصبَّ هذه الشركات في خدمة الإنسانية إلى كابوس، وعلى سويسرا ألا تسعى وراء ذلك الحلم”.
انتشار التكنولوجيا وتفاقم الفقر وتصاعد التوترات
تحدثت أيضًا مع الفنانة والباحثة شريفة وونغ، التي تدرس آثار التكنولوجيات الناشئة على المجتمعات، وهي أيضًا باحثة علمية مشاركة في جامعة كاليفورنيا ببيركلي. وترى وونغ بأن الصورة الشائعة للعقول الفذَّة التي تغيِّر العالم برؤاها الثاقبة ما هي إلَّا وهم، حيث تتساءل: “نحن نقدِّس أسطورة العقول المخترعة؛ الحلم الأمريكي بأن يقفز الشخص المُعدم إلى الثراء، ويغيَّر العالم نحو الأفضل، ولكن الأفضل لمن؟”.
وكنت قد قابلت وونغ في اليوم الذي سبق لقائي مع تيرنر في جامعة ستانفورد. جلسنا على المقاعد الخارجية في مقهى بسان فرانسيسكو، تفصلنا مسافة قصيرة عن الحيِّ الصيني. وأثناء حديثنا، لمحت سيدة بلا مأوى تجلس على طاولة قريبة وتخلع معظم ملابسها حتّى تكاد تتعرّى بالكامل. وفي تلك اللحظة، توقَّفت سيارة ذاتية القيادة باللونين البرتقالي والأبيض عند التقاطع، بانتظار عبور المشاة. ومدينة سان فرانسيسكو هي واحدة من أولى المدن في العالم التي شهدت اختبارات للسيارات ذاتية القيادة وروبوتات التوصيل. ولكن، ما الذي استفاده الناس من هذه الاختراعات؟
وبعد أن تأمَّلت وونغ قليلًا في إجابة لهذا السؤال، قالت: “أصبح الناس أكثر فقرًا، وأصبحت وظائفهم مُهدَّدة أكثر”. واستشهدت بمثال سائقات وسائقي سيارات الأجرة، فهذه الفئة ليس لديها تأمين صحيّ، وتعتمد على خوارزميات تطبيق “أوبر” المُبهمة، وتكدُّ لكسب قوت يومها. ويؤثر الفقر بشكل خاص على العائلات الأفريقية الأمريكية واللاتينية.
سويسرا: ابتكارات كثيرة وتفاوت اجتماعي قليل
عندما يكون الحديث عن الابتكار والإنصاف الاجتماعي؛ يرى تيرنر أنَّ أوروبا قد يكون في جعبتها ما تعلِّمه لنظيرتها الأمريكية. وأنَّ بلدانًا أوروبية، مثل ركيزتي الاتحاد الأوروبي فرنسا وألمانيا، قد تُصبح نماذجَ للأنظمة الاجتماعية القويّة والقواعد المشتركة القادرة على تطويع التكنولوجيا لكي تصبَّ في خدمة الديمقراطية، وليس العكس.
ويرى تيرنر أنَّ سويسرا، بموقعها الجغرافي الفريد ومؤسساتها الديمقراطية اللامركزية، قد تكون أيضًا نموذجًا يُقتدى به. إذ تُغدق سويسرا على الاستثمار في التعليم العام 16% مقابل 10 في الولايات المتحدة، وتموّل الحكومة جامعاتها المرموقة عالميًّا، وتتيح لجميع الطبقات الاجتماعية الاستفادة منها.
ويضيف تيرنر أنّ “ البلد الذي يحقق مستويات عالية من الابتكار وتفاوت اجتماعي قليل، كما حقَّقت سويسرا، ليس لديه الكثير ليتعلم من وادي السيليكون”. وعلى أرض الواقع، جاءت سويسرا في المرتبة الأولى على مؤشر الابتكار العالمي لمدة 13 عاماً متتالية. وعلاوة على ذلك، فهي واحدة من البلدان الأكثر تحقيقًا للمساواة في العالم من حيث توزيع الدخل، رغم تواصل تراكم الثروة في أيد قليلة.
