18 يوليو 2023
أمامة أحمد عكوش – كاتب وصحفي سوري
حالَمَا يهزُّ الصَّوتُ موضع القلب في الرُّوح والجسد، وتبحث العين عن مصدره، فلنتأكَّد.. أنَّنا وقعنا في أسْرِ صوت قامة معتدلة تطالعنا كجذع سنديان، شاربٌ وطربوشٌ وشروال .. وصرخةٌ تصدح بالعتابا والأوف والميجانا .. ليعود صداها إلينا من السَّماء، تهتزُّ شرايين الأفئدة .. لما تحمله من إحساس بكلمته المغنَّاة، فتتراقص الحروف كنوتات على سُلّمِ الوتين .. وتمشي الكلمات كشخوص من لحم ودم وروح على درجات اليقين .. وتبتسم الجُمَلُ كقمر يُسامِرُ الليل بالنّور المبين .. وتبتهج السُّطور كشمس تتوّهج عموداً رابعاً في الفنّ الرّحباني الرّصين، إذاً.. نحن في حَضْرَةِ “نصري شمس الدّين”.
آخر العنقود
في السَّابع والعشرين من حزيران/يونيو عام 1927 ولد نصر الدّين مصطفى شمس الدّين، آخر العنقود بين إخوته (ثلاثة بنات، وستّة صبيان)، من أسرة تُعرف بعائلة “المشايخ”، في بلدة جون بلبنان، من أبوين يتمتّعان بموهبة الصّوت الجميل، لطالما استمع لصوتيهما وهما يدندنا الموروث والفلكلور اللبناني، ويردّدا روائع أغاني عمالقة الطّرب في العالم العربي. “طربت لسماع صوت والدتي، التي كنت ملتصقاً بها طوال الوقت” بهذه الكلمات عبّر غير مرّة عن عشق طفولته لصوت والدته، لتكتشف بدورها أيضاً، أنّ أصغر فلذّات كبدها، يمتلك صوتاً عذباً وهو يدندن كلّ ما يتهاوى إلى مسامعه، وأكثر ما كان يردّده أغاني “كارم محمود”، لتبدأ بتشجيعه والعمل على صقل موهبته، فاشترت له “عود”، وبدأت بتعليمه العزف عليه مع الغناء.
التّدريس .. الغناء!
درس الابتدائية في بلدته، وغنّى لزملائه وأساتذته، إضافةً إلى المواظبة على حضور أعراس القرية والاستمتاع بما يغنّى فيها، ومن ثمّ بدأ الغناء في أفراح أقاربه وجيرانه وأبناء قريته، فأطلق عليه آنذاك “مطرب الضّيعة”. بعد الابتدائية.. انتقل إلى مدرسة المقاصد في صيدا، وفي عمر الـ 17 – قبل إتمامه الدّراسة الثّانوية – أصبح مُدرِّساً للغة العربية في مدرسة شبعا بقضاء حاصبيا، ثمّ في صور، حيث ضبطه في أحد المرّات مدير الثّانوية وهو يغنّي لطلابه، فخيّره بين “الغناء أو التّدريس”، ليختار – دون أدنى شكّ – الغناء، طاوياً صفحة التّدريس، ومستهلّاً صفحة ستسطّر اسمه بحبر من ذهبٍ في صفحات مكتبة الغناء العربي.
موظف بريد!
المحطّة التّالية من حياة “مطرب الضّيعة”، كانت انتقاله إلى مصر، للعمل في شركة “نحّاس فيلم” مع فرقة اسماعيل ياسين، وانتسب إلى “الكونسرفتوار” المصري، حيث تعلّم – طوال سنتين – احتراف العزف على العود، إلّا أنّ التّوفيق لم يكتب له في مصر، فسافر إلى بلجيكا للتّوسع بدراسة الموسيقى، وحصد شهادة دبلوم في الموسيقى، ليعود بعدها إلى لبنان، وأيضاً.. لم يحالفه الحظ، إذ أنّه لم يوفَّق بالعمل في المجال الذي اختصّ فيه، لتسوقه الأقدار إلى العمل موظّفاً في البريد ببيروت.
بحلفك يا طير بالفرقة
عام 1952 قرأ “موظّف البريد” إعلاناً في الصّحف، يقضي بـ “أنّ إذاعة الشّرق الأدنى تبحث عن مواهب فنية شابّة”، فتقدّم لها، ليقف أمام لجنة تحكيم مخضرمة (عاصي الرّحباني، ومنصور الرّحباني، وعبد الغني شعبان، وحليم الرّومي) الذين أعجبوا بصوته، واتخذوا قراراً بضمّه للفريق الغنائي في الإذاعة، التي سُمّيت فيما بعد بـ “إذاعة لبنان الرّسمية”. ليؤدّي بدوره خلال تواجده في إذاعة لبنان عديد الأغاني، منها ثلاثة اسكتشات غنائية (مزراب العين، وحلوة وأوتومبيل، وبراد الجمعية)، لتصدر بعدها أغنيته الخاصّة الأولى “بحلفك يا طير بالفرقة” من ألحان فيلمون وهبي وكلمات أسعد السّبعلي. كما شهدت هذه الفترة، وتحديداً عام 1956 زواجه من يسرى الدّاعوق، وأنجبا (مصطفى وألماسة “توأم” _ مي _ ماهر _ ريما ولين “توأم”).
العمود الرّابع
بصوته الجبلي العتيق، وأدائه الرّجولي الأخّاذ، والفلكلوري الأصيل، نال رضى المخرج والمنتج والموسيقار صبري الشّريف “المستشار الفنّي لآل الرّحباني”، ليقدّمه – مرّةً ثانية – للأخوين “عاصي ومنصور”، وليتمّ ضمّه لمسرح الرّحابنة مطلع السّتينات، ومن وقتها أطلقا عليه اسم “نصري شمس الدّين”، كما جمعه بهما إلى جانب (إيلي شويري، و وليم حسواني)، ارتباط وثيق وصداقة حميمة، لتكون هذه الفترة، فترة سطوع نجمه، إذ بدأ بشقّ طريقه مع (الرّحابنة و فيروز) إلى النّجومية، وليطلق عليه حينها عديد النّقاد “العمود الرّابع في المسرح والفنّ الرّحباني”.
فيروز .. نصري
أدّى “العمود الرّابع في المسرح الرّحباني” العديد من الأعمال المسرحية الغنائية برفقتهم، في مهرجانات (بعلبك والأرز، وفي مسرح البيكاديلي، وفي بيت الدّين، وبنت جبيل)، ومن أعمال صاحب “الطّربوش والشّنب والشّروال” في هذه الحقبة (موسم العز، وجسر القمر، ودواليب الهوى، وبياع الخواتم، وناطورة المفاتيح، وهالة والملك، وصح النّوم، وميس الرّيم، يا مارق على الطّواحين، وهدّوني هدّوني عينيها سحروني يا أم الفستان الزهري بخبيكي بعيوني، وبترا)، حتّى بات الجمهور العربي، لا يتخيّل على خشبة المسرح فيروز من دون نصري شمس الدّين، و شمس الدّين من دون فيروز.
كتابة .. تلحين
بعد مسرحية “بترا” عام 1977، التي قدّم فيها نصري دور “الوزير ربال”، افترقت فيروز عن عاصي نهاية السّبعينات، لينصرف بدوره شمس الدّين في ذات الفترة إلى إطلاق أغاني منفردة، وأصدر مطلع الثّمانينات ألبوماً حمل عنوان “الطّربوش” من ألحان ملحم بركات، ليشارك بعدها في تأليف وتلحين بعض أغانيه مثل “ليلى دخل عيونها”، إضافة إلى أنّ حياته الفنية شهدت تعاوناً مع عديد الملحنين، منهم (حليم الرّومي، وزكي ناصيف، وعفيف رضوان)، كما لحّن بنفسه “بعرسك حبيت غنيلك قصيدة” من كلمات مصطفى محمود، التي غنّاها في عرس ابنته ألماسة.
سينما .. برامج .. فرقة
لم تقتصر أعماله على الغناء، والمسرحية الغنائية، بل شارك في عديد الأفلام السّينمائية، منها مع فيروز مثل “بياع الخواتم من إنتاج يوسف شاهين، وبنت الحارس”، ومنها مع الشّحرورة صباح في “كواكب وليالي الشّرق”، وعدداً من البرامج منها (دفاتر الليل _ ضيعة الأغاني _ مع الحكايات _ ليلة الهدايا _ سهر حب _ ليالي السّعد). ومن ثمّ شكّل فرقة “جون للفلكلور الشّعبي” التي شاركت في مهرجانات عربية وعالمية، الفرقة الاستعراضية التي قام بتشكيلها فترة توقّف معظم النّشاطات الفنّية في لبنان بحكم التّطورات العديدة المتلاحقة التي عاشتها السّاحة اللبنانية آنذاك. – في ذات الحقبة تزوّج شمس الدّين مرّة ثانية من فنانة شابّة “27 عاماً” كانت في فرقته، وتمّ ذلك عقب رحلة فنية إلى ليبيا – . وعن هذه الحقبة يقول الباحث عبيدو باشا في كتابه “هم”: “إنَّ نصري شمس الدّين اتّكأ على معصرة الزّيتون التي ورثها عن والده، في واحدة من تجاربه القاسية لاستمرار حلمه الفنّي، سافر مع فرقته إلى أمريكا لإقامة حفلات، وإلى عديد الدول، فخسر أموالاً طائلة، بقي سبع سنوات يسدّد ديونه، وكانت المعصرة السّند الأساسي في ذلك”.
ريما
ضرب “ابن الزّيتون” موعداً مع القائمين على مسرح نادي الشّرق في دمشق لإحياء حفل غنائي، إلّا أنَّ ابنته ريما أصيبت بوعكة صحية قبل توجّهه إلى سورية، “شعرت حينها بانهيار والدي، يعانقني، يروح ويجيء في البيت، وما أن دخل إلى الحمام، حتى سقط وشجّ رأسه، بعدها عبّر عن رغبته في تأجيل الحفلة ليبقى إلى جانبي، أخبرته أنّي صرت بحال جيدة، وأنّ لديه ارتباطات لا يمكن إلغاؤها، ضمّني، وتحدّث عن الموت، قال: أشعر أنّي سأموت قريباً” هذا ما قالته ريما في إحدى اللقاءات بعد سنوات.
على المسرح!
“أتمنّى أن أموت وأنا أغنّي عن الوطن والضيعة والنّاس” بهذه الكلمات عبّر حين مرّة شمس الدّين عن شغفه بالغناء والوطن والإنسان – وقد كان له ذلك فعلاً – ، فها هو يُتَوَفّي وهو يغنّي على مسرح نادي الشّرق في دمشق في الثّامن عشر من آذار/مارس عام 1983، جرّاء نزيف دماغي حاد، ليُدفن حسب وصيته في بلدته جون بلبنان، وليغدو “نصري شمس الدين” أيقونة للموت على المسرح في سبيل الفنّ، أيقونة للحياة من رحم الفنّ.
أغاني لم تُنشر!
“لقد مرّ والدي بظروف قاسية ومتعبة، فلم تكُ الفضائيات والإذاعات متوفّرة، منذ أن كان في السّابعة من العمر محبّاً للفنّ، وعندما كبر.. استطاع أن ينشر الأغنية اللبنانية في العالم، من خلال المسرحيات والاسكتشات مع الرّحابنة، إضافة إلى أغانيه الخاصّة” بهذه الكلمات عبّر مصطفى نصري شمس الدّين عن ظروف والده خلال مسيرته في أحد المقابلات بعد سنوات طويلة على وفاة والده، مضيفاً أنَّ ما عاناه والده في حياته ليس أخف وطأً ممّا حصل مع إرثه الفنّي بعد وفاته، موضّحاً ذلك بالقول: “في الإذاعة اللبنانية الرّسمية يوجد 285 أغنية لنصري شمس الدّين، إلّا أنّه من النّادر بثّها”. وأردف: “إنّ العائلة كرّمت أبي بإنشاء حديقة وتمثال له في جون”، وكشف نجل الرّاحل أنّ لدى عائلته أغانٍ له لم ترَ النّور بعد “بحوزتنا 250 أغنية لم تُنشر بعد، ولا نريد نشرها، كي لا يضيع هذا الأرشيف أو يُسرق، وخصوصاً أنّه لا توجد حقوق ملكية”.
ذهب .. طابع .. استديو .. كتاب
الأيقونة الذي ترك مئات الأغنيات بين (موال ودبكات وأغنيات عاطفية ووطنية وثنائيات)، حصد خلال حياته الفنية الممتدّة لأكثر من ثلاثين عاماً عدّة ميداليات وأوسمة، منها (ميدالية ذهبية من دولتي الكويت وليبيا، ومفتاح مدينة العرب، ووسام الاستحقاق اللبناني، ووسام الجمعية الفرنسية برتبة فارس، ووسام العيد البلجيكي). ها هو – بعد سنوات طويلة على وفاته – وتحديداً عام 2016، يعود للتّكريم من جديد، وأيّما تكريم!.. هو تكريم بطعم خاص، إذ أنّه من حيث مسقط رأسه، وحيث مرقده الأخير، فها هي بلدية جون في 27 حزيران/يونيو 2017 “بمناسبة مرور 90 عاماً على ولادته”، تصدر ميدالية ذهبية تحمل صورته باللباس التّراثي، وأزرار مذهّبة، فضلاً عن 8 بطاقات بريدية لصور نادرة له، وفي 19 تشرين الأول/أكتوبر من ذات العام، صدر عن وزارة الاتّصالات اللبنانية بالتّعاون مع “ليبان بوست”، طابع بريدي حمل صورته ورسم له بريشة الفنانة خولة الطفيلي – مغلّفه التّذكاري من تصميم الإعلامي كامل جابر – ، وأقيم بهذه المناسبة مهرجان حاشد في النّبطية، كما أقامت إذاعة لبنان احتفالية خاصة في آذار 2023 بمناسبة مرور 40 عاماً على وفاته، وأطلقت على واحد من استديوهاتها السبعة “الاستديو رقم 4” اسم “نصري شمس الدّين، إضافة إلى مبادرة من جورج الشّمالي لنشر كتاب عنه بعنوان: “الركن الرّحباني الرّابع.. نصري شمس الدّين”.