عمر سليمان.. “قيصر” الهوية الأولى

حينما غزت موسيقا الراي قصور العائلات المحتشمة وعلية القوم، ثارت ثائرة النخب والغيورين على هذا النمط الغنائي الذي يسمي الأسماء بأشيائها، وظل منبوذاً يسمع في السرّ إلى أن شرعنه الشغف الأوروبي ومشاركته في كبرى المهرجانات العالمية فعاد إلى بلاده معززاً مكرماً على يدي الشاب خالد ومامي ورشيد طه وزملائهم.

وقريباً من هذا وأعمق، ما حصل مع الفلامنغو الذي يخصّ الغجر الجوالين، حيث كان من المعيب أن يسمع النبلاء كلاماً خادشاً وموسيقا منفلته وارتجالية خارج الأطر المعروفة والكلاسيكية. إلى أن شرعنه مجدداً لوركا العظيم، الأرستقراطي الذي تعلم هذا الغناء من خدم القصر، عندما أسسّ أول مهرجان للغناء العميق وهو ما يعرف بـ cante hondo  وكتب عدة أغان من أشهر ما يغنى اليوم في الفلامنكو، مثل أغنية “فتيات جيان المسلمات، عائشة، فاطمة، مريم” وهي أغنية خالدة يعدها النقاد من تحف الغناء العميق على مرّ الزمان.

مثل الراي، واجه الفلامنكو حرباً ضروس من النبلاء والأرستقراطيين الذين يعدونه غناء الغجر “السفلة” لا غناء الصالونات الشريف! ولك أن تتخيل أن الفلامنغو حتى سنوات قريبة لم يكن يدرس في الأكاديميات الموسيقية والكونسرتات حتى سنوات قريبة بعد أن كافحت أستريلا مورينتي ابنة المغني المعروف إنريكي مورينتي، وهي بالنسبة لي شخصياً ذروة هذا الفن ومنعكسه التراكمي الأجمل، حيث كافحت وناضلت ودافعت عن هويتها الموسيقية لتؤصل الفلامنكو كعلمٍ منهجي، ووصلت لتكون أول أستاذة كرسي لعلوم الفلامنكو في العالم.

هذه مقدمة طويلة لأدخل على الفن الشعبي السوري من خلال سارية سواس وعمر سليمان على اختلاف ما يقدم كل منهما، إنما يهمني في هذا الغناء الشعبي الذي ما زال، ككل الفنون الشعبية في العالم يعاني من تعالي النخب عليه، بوصفه غير مؤطر بـ”تخت” موسيقي ومقامات واضحة. ويعامل أصحابه وكأنهم سبّة أو تهمة أو شبهة جهل وتخلف، إلا أنني ومن وجهة نظري أنظر إلى من لا يحب موسيقاه الشعبية نظري إلى “المستغربين” ممن لم يتخلصوا من ثقافتهم ولم يستوعبوا ثقافة الآخر.

حسنٌ لننطلق من فكرة أن الموسيقا الشعبية هي موسيقا عمياء لا تستند على النوتات ولا تحاكي إلا ما تسرب لها من أنغام منبتها، وهنا تماماً سحرها اتكاءً على أن “المعرفة حجاب” في كثير من تصوراتها.

في مهرجان دلفي في عام من الأعوام، التقينا مع ناقد ومؤلف موسيقي صربي – اسمه أصعب من أن يحفظ – قال لي أسمعني أغنية من مصر، أسمعته كذا أغنية أنا أحبها وهو يشيح بوجهه ويتأفف! أسمعته “يا بنت السلطان” لأحمد عدوية فقال لي: نعم، نعم، هذه هي مصر. القضية هنا تتعلق بالهوية والأصالة. لعل بقية الأغنيات التي سمعها تداخلت معها ألحان غربية أو ما شابه.

عمر سليمان كائن للجدل، للعجائب البكر، القهقهات الصاخبة، الحيرة والغضب المذهل للنخب الثقافية أو البهجة المذهلة لمحبي موسيقى الجاز، إنه ساذج فني رائع، الغريب تاجر غيبوبة عربي بصوت شائك

إن سألت جوجل عن عمر سليمان، سيجيبك بسطرين في اللغة العربية، وإن سألته في الإنجليزية سيحيلك إلى صفحات كثيرة ويشرح عنه أضعاف ما تعرف عنه بالعربية. لماذ هذا الهوس الغربي بعمر سليمان؟

نعم حزرت، إنها الهوية مرة أخرى، إن عمر سليمان أو سارية السواس مثلاً، يضعون بين أيدينا هويتهم الأولى دون ادّعاء، يقول سليمان عن نفسه إنه إنسان بسيط، وهو كذلك والناس تعرف أنه كذلك، فلم يحاول أن يتثاقف ولا أن يلبس غير لبوسه ولا أن يتبنى موسيقا لا تشبهه ولا حتى غيّر “جلابيته” التي وصل بها إلى أن يفتتح حفل الأكاديمية السويدية الملكية في حفل نوبل للسلام عام 2013 وسط احتشاد من أكبر علماء ووجهاء الكوكب.

تلك الأصالة سحرت الجميع، الموسيقي والناقد البريطاني المعروف أندي مورغان، كتب عن عمر سليمان: “أنظر إلى عمر في جلابيته البيضاء الشفافة يغني بصوت مثل المنشار! أخذ الموسيقى القديمة وهرسها في فوضى صاخبة. إنه نسيم خام من الحداثة والصدق. استمع إلى عمر وصدقني، لن تجلس على كرسيك لفترة طويلة. عمر سليمان كائن للجدل، للعجائب البكر، القهقهات الصاخبة، الحيرة والغضب المذهل للنخب الثقافية أو البهجة المذهلة لمحبي موسيقى الجاز، إنه ساذج فني رائع، الغريب القادم من عالم آخر، تاجر غيبوبة عربي بصوت شائك، تتنقل موسيقاه وتهوي بالضحك والمقاييس المستحيلة والدقات الدائرية. قد تكون حقيقة وجوده غير المحتمل هي بالفعل نصف سحره. ومع ذلك، فبالنسبة لبعض المثقفين، في سوريا والعالم فإن عمر سليمان هو اختلاس ثقافي جسيم، وهو نوع من مؤامرة القمامة”.

اكتشفه الأمريكي من أصل عراقي مارك جرجس، اكتشفه في عام 1997، ثم عاد إليه في عام 2000 وظل يفكر حتى وقع معه عقداً عام 2006، يقول مارك: “اخترت سوريا كأول محطة خارج أمريكا لأنها بدت وكأنها آخر معقل في الشرق الأوسط للعالم العربي القديم. جئت لأجل الدبكة لكنني تعثرت بعمر سليمان.. لم أسمع مثل هذا الصوت من قبل، هذا الصوت المحموم، هذا الخام، بسرعة خاطفة أمسك بي حقًا. وفي كل مرة أسأل من هذا؟ نفس الإجابة تعود إلي: عمر سليمان”.

في مداخلة لصحافي سوري مع مورغان لم يذكر اسمه قال: “أنا مدافع كبير عن الشعبي أو الموسيقا الشعبية. ومع ذلك، فإن عمر مغني سيء للغاية. ومن المؤسف حقا أنه كان محظوظا. هذا ليس حكم اجتماعي. هذا رأي فني، خاصة وأن الجزيرة مليئة بالمطربين المشهورين الرائعين، مثل إبراهيم كيفو على سبيل المثال، أنا معجب بوفيق حبيب من الساحل. موسيقا عمر تسيء إلى الموسيقيين المحليين خاصة عندما يتم عرضها في المهرجانات الدولية كموسيقى سورية. لا أحد يعرفه هنا ربما باستثناء بعض سائقي الشاحنات من الشمال. إنها موسيقا مروعة بكلمات غبية. لكنني أفهم أن الجماهير الغربية قد تجدها رائعة لأنها هزلية، وبسبب مظهره المضحك”.

يقول جرجس: في الحسكة، في تلك البقعة النائية التي تبعد 12 ساعة عن دمشق، من يهمه أن يقرأ أطروحات عرقية موسيقية حول تقاليدهم ويقتنعون فقط بضرب رؤوسهم بلا رحمة لماذا عليه أن يعرف تاريخ أمريكا السوداء، والهجرة شمالًا من الريف الجنوبي، وصناعة السيارات في ديترويت، وموسيقا الإنجيل، والعبودية وكل موسيقا الجاز تلك إنه يخترع سياقات الموسيقا التي تحبها وحسب، عليك أن لا تنتقد الآخرين لأنهم لا يقضون وقتهم بالطريقة نفسها”.

تعثرت بعمر سليمان.. لم أسمع مثل هذا الصوت من قبل، هذا الصوت المحموم، هذا الخام، بسرعة خاطفة أمسك بي حقًا

يختتم مورغان مقاله الطويل بهذا “أحب موسيقا عمر سليمان. حسنًا، لا أعرف ما الذي يغني عنه، أحب حقيقة أن عمر سليمان ليس فنانًا مبتسمًا مثل وفيق حبيب أو علي الديك، إنه فتى راكب دراجة نارية صعب المراس جاء من مكان صعب. مثل جين فينسنت ودي دي رامون وإيجي بوب. ولست بحاجة لمعرفة حقيقة واحدة عنه لأقدر تلك الروح فيه. وإن أسميتها قمامة، فلا ينبغي لأحد أن يتجاهل القمامة يحتاج الفن الراقي إلى القمامة من أجل زيادة مستويات طاقته. لقد فهم شكسبير وديكنز وبارتوك وجويس ذلك جيدًا. أتفاجأ دائمًا بالطاقة والجودة لاختراع الموسيقى في أشرطة كاسيت رخيصة ومبتذلة، مع عدم وجود قيم إنتاج كتلك التي أجدها في أسواق العالم. علينا أن نثق في الأشخاص الذين يصنعون تلك الموسيقى ونثق في طريقتهم في صنعها”.

أخيراً، بالنسبة لي، هؤلاء المغنون الشعبيون أحب لديّ من مدّعي الثقافة الذين ورطوا أنفسهم بمساحة ليست لهم فحرمونا من أصواتهم الجميلة في التمسك بهوية هي ليست هويتهم. وغناء لم يخرج من قلبهم.  أحبهم ببساطة لأنهم الرأي الشعبي دون أي مثقلات، وسعاة بريد ما يدور في الشارع الترابي المهجور، وهم وجهة نظر المنسيين ينقلون لعلية القوم ما يحصل في الأقاصي كما هو دون أي محسنات لفظية أو زخارف موسيقية “عالقة” تقصيه عن المنبع، وأحترمهم جداً لأنهم يدافعون عن هويتهم الأولى ومشربهم الأول.

عليّ أن أختتم بهذا: التقيت بسارية السواس في مهرجان فني كبير، رأيتها وهي تدخل إلى الفندق الفاره وتعطي “البخشيش” لكل من حولها، حامل الحقائب، فتى الباركينغ، كل من لمحته أخذ قطعة نقود من الحجم الكبير لا يجرؤ “النخبوي” على دفعها لأحد! .. غنّت “عرب عرب” بصوتها البديع وحضورها الفطري الذي لا يحمل كيلوغرام من التقمص والاستدعاء. نعم هو هكذا وبهذه الكيفية.. عرب عرب. لا أكثر ولا أقل. دون أية تبعات أو فذلكات.

قد يعجبك ايضا