رانيا يوسف – كاتبة من سوريا
يُشبهُ الكاتبُ الرّيح، بعضها يكون عاتياً!
يصفق بوجهنا الأبواب والنوافذ، يمرّ غضوباً هادراً يصفعنا بما يحمل من كلمات وجمل من أماكن بعيدة، فيقول كلّ شيء ويذري كلّ شيء كأنّه لم يقل، تقرأ ما كتب وتكاد ترى وجهه البائس المتغضن الذي يستجدي الموهبة، يتوه المغزى ويئن بثقل المصطلحات والعبارات الرّنانة، يحاول حشرها وترتيبها بشكل قسري مؤلم على خيال القارئ وفطرته، أعرف أنك هنا لم تكمل القراءة وانسحبت، لكن في النصوص الخالدة.. ستشعر أن لناس هذه النصوص لحم ودم، وحياة تتمرد حتّى على الكاتب الذي خلقهم، فتطير شهرتها إلى الآفاق.
ينجح أولئك غير المتكلفين الذين لا يعانون تخمة المفردات، ينجح أولئك الذين وصلوا بفطرتهم إلى براءة أحاسيسنا الأولى، يمسكوننا بتلابيب قلوبنا، نهرول خلف أبطالهم حتى آخر نقطة في آخر سطر.
نحن نحبّ الناس العاديين، الخطائين والضعفاء، الذين يجدون أنفسهم فجأة أبطالا يصولون ويجولون على متن الكلمات، فلا تعدو مهمة الكاتب سوى استراق السمع إليهم.
أذكر أنني انتابني قلق مرّ وشديد على جثّة مريم على طارق وليلى أبطال رواية خالد الحسيني”ألف شمس مشرقة ” عندما رجعت طالبان إلى سدة الحكم في أفغانستان وصرت أبحث عن ليلى ومدرستها، عن شعرها الأصفر في نشرات الأخبار القادمة من بلاد تدوسها الحروب بلؤم، وسمعت صرخة تولستوي المطرود حديثا من نعيم سان بطرسبورغ عندما انفجر جمال القوقاز ومهابة جباله أمام عينيه.. سمعت صرخته “الآن تبدأ الحياة”، وفي روايته “القوزاق” شممت رائحة دماء الطرائد التي غنمها الصياد الأرمل العجوز، كرهت بيته الذي تؤثثه الفوضى والقذارة والروائح الكريهة، لكنّه علّمني كما علّم بطل الرواية: أن الذين عجزوا عن اللحاق باللاهثين خلف ملذات الحياة، سيزفرون وهم في شبه انحناءة، وأيديهم على ركبهم سيزفرون الهموم والأوهام، وسيستمتعون بكل ما تركه اللاهثون خلفهم، حيث بذور الحياة الأولى وصدقها ونقاؤها.
يعرف الخلّاقون من أدباء وشعراء كيف يختفون، يتلصصون علينا بابتسامة “نحن القرّاء” كلّما وقعنا في أفخاخ المشاعر التي نصبوها لنا على طول الحكاية.
هنا تحضرني هذه الكلمات لأبي النواس إذ يقول :
تَغَطَّيتُ مِن دَهري بِظِلِّ جَناحِهِ
فَعَيني تَرى دَهري وَلَيسَ يَراني
فَلَو تَسأَلَ الأَيّامَ ما اسمي لَما دَرَت
وَأَينَ مَكاني ما عَرَفنَ مَكاني
بونٌ شاسعٌ.. شاسعٌ جدّاً بين من يسعون الى المجد وبين الذين سعى المجدُ إليهم، إنّ أجمل ما قد يفعله كاتبٌ هو أن يعرف كيف يختفي.
