23 يونيو 2023
رانيا يوسف – كاتبة سورية
والبلاد نساء…تطير بفساتينها وعطورها، تضحك بثقة عشرينيّة موفورة الصّحة، هانئة البال، عشرينيّة شقيّة خبّأت العالم في حقيبة يدها، النّظافة طبع متأصل فيهن، نساء تسوس بأصابع أقدامهاالغضة، أقدار أخريات، لكنّها ليست بلادي.
بلادي المتبرّجة بصخب مضحك، خرقاء متصابية، تلوك نفسها وتبصقنا،تنتعل فقراءها. أقدامها متشققة، مغموسة في شظف العيش، وتعرف البلاد من أقدامها، من أناسها الموتى حتّى قبل أن يولدوا، أناسها الذين أرعبتهم الحرب إذ نظرت في عيونهم، والدماء تتقاطر من أنيابها، خاف المساكين، وأفلتت قلوبهم نبضة، تساقطت أحلامهم وتكسّرت، رموها في حاويات القمامة..
ومن نكد الدهر أنّ هذه الحاويات صارت ملاذاً آمناً وشريفاً، ليست فقط لمن كان يعمل بها، بل لكثيرين من محدثي الفواجع، المتزايدة أعدادهم باستمرار مقلق، يشي بهول أحوال الناس وأوضاعها.
أخبرني عامل النظافة جمعة محمد وزميله العجوز الذين أراهم كلّ يوم منكبين بدأب ونشاط على عملهم، في كلّ ظروف الحرّ والقرّ، الازدحام والهدوء، لكن دائما مع الرائحة الكريهة التي يبدو أنّها ليس أسوأ ما في الأمر. جمعة محمد أب لثلاثة أطفال بدأ العمل عام ألفين وثمانية، منذ الساعة السابعة حتى الثالثة، دون انقطاع.
سألته عن أصعب أصعب موقف مرّ به فأخبرني عن زوجته التي رجعت باكية من السوق لأنّها لن تقدر على شراء ملابس العيد، وعن حلمه المبتور بأن يكون له ولد رابع، لكّن صديقه العجوز أخبرني وهو يضع يسند بيديه الجافتين ظهره قال لي: ((كل شي صعب يا بنتي كل شي صعب ..تعب تعب كتير … وهاد أصعب شغل))، وهو محق!
الناس ترمي قمامتها باستهتار وإهمال، الفقر عند هذه الطبقة موت زؤام، يحلف جمعة بأن كثيرا من عمّال النظافة، وخصوصاً بعد الحرب صاروا يستمرؤون الأكل من القمامة، ينافسون الذباب والقوارض وآدميين آخرين، في ظلّ انخفاض قيمة موجودات القمامة، وأنا أصدّق جمعة وأنتم تصدّقونه، لأننا رأينا بأم أعيننا ويا ليتنا لم نر ما آلت اليه أحوال الناس.
يقول جمعه: بأنه يحاول أن يصل باكرا بأقصى ما يستطيع كي يسبق المنافسين المتجددين على ما تحويه القمامة من مواد قابلة لإعادة التدوير، من بلاستك وكرتون وخبز يابس، والتي صار كثير من الناس يضنّون بها، ويستثمرونها أيضا، يضطّر جمعة وصديقة أن يوسّعا نطاق صيدهما اليومي، والقليل، لكنّ وحش الغلاء وكما حال كثير كثير من السوريين لا يرحم، مع أنّهم أجدى النّاس بالرحمة والمساعدة، دعياني إلى فنجان قهوة ….قهوة طيبة يا آنسة، اعتذرت شاكرة وانسحبت، وأنا أداري فقاعة الحزن التي كادت تنفجر بقلبي..
تذكرت أبي، تذكرت أنّي كنت في العمر الذي كان يبدو كل شيء فيه عملاقا، العمر الذي كنت أعتقد فيه أن طول أبي أكثر من مئة متر، لمّا سألته بتعجّب، لماذا تضيّع الماء الذي تخرجه من الجب وترميه إلى التراب؟ لم أكن أعلم أن للنباتات جذور، وأن رعاية النبات الحقيقة تبدأ من هناك، (فقط الجذور المدللة تعطي نباتا قويا)،أشار بأصابعه الطويلة التي امتهنت الإشارة إلى السّبورة، وعرّفني أول درس بالعلوم! جذور ..شجرة …ثمار ، وأنّ الثمار هنّ بنات الاشجار، وعرفت عرفت أنّ البلاد أشجار.