ليندا إبراهيم: أعيشُ عزلة الحقِّ بين ركام الباطل

10 سبتمبر 2023

حاورها: هاني نديم

ليندا ابراهيم شاعرة سورية وناشطة ثقافية تعمل بجهد لخدمة المشهد السوري، التقيتها في أبو ظبي أثناء مشاركتها في برنامج أمير الشعراء حيث وصلت إلى الأدوار الأخيرة بقصيدتها وبصمتها اللغوية الخاصة، التقيتها في هذه الدردشة السريعة حول الشعر  والحياة والبلاد..

سألتها:

  • منذ أمير الشعراء لليوم، ما الذي تغير في نص ليندا إبراهيم، وهل فعلاً أثرتك تلك التجربة؟ ما هي انعكاساتها عليك؟ المشهد السوري المربك بعد عقد دموي، ماذا خسرنا وماذا ربحنا ثقافياً؟ حدثيني عن رؤيتك وقراءتك للأمر عن ليندا وحياتها خارج الشعر، سعاداتك ومباهجك، أحزانك وآلامك، عن سوريا والمجتمع حدثيني عنك خارج نصك

مسابقة أمير الشعراء كانت فرصة للخروج من المحلية الضيقة جداً إلى العربية فالدولية، فكلنا يعلم أهميَّة المنبر للشاعر، ومسابقة أمير الشعراء أتاحت المنبر بجمهوره العريض، وبالوقت نفسه كانت محطة التلاقح والتلاقي الأولى والاحتكاك الحقيقي الأول مع تجارب الشعراء العرب المشاركين من جيلي وما قبلهم، مسابقة أمير الشعراء تضع الشاعر في تحدٍّ مع المشاركين، ومع نفسه على وجه الخصوص، مسابقة أمير الشعراء لا تصنع شاعراً ولا تعطيه موهبةً، بل تظهِّر التَّجربة وحسب، وتضعها في سياقها الصحيح مع تجارب الآخرين، وفي سياقها الزمني الملائم لكي يستطيع الشاعر التأسيس عليها لاحقاً كنقطة تأسيس، وبالوقت نفسه كنقطة علام أو علامة فارقة في تجربته سواء أكانت هذه العلامة الفارقة موفَّقة أم لا..

أمير الشعراء أخرجت ليندا إبراهيم، بقدرة مارد، من قمقم الذات إلى فضاء الروح، أمير الشعراء أثبتت لي بأنني كنت مخطئة بأن تجربتي الشعرية حينذاك كانت متواضعة لدرجة كنت أرجئ وأتهيَّب التقدم للمشاركة.. أمير الشعراء أنضجتني أدبياً وشعرياً واجتماعياً ووطنياً وسياسياً وعلى الفور.. أمير الشعراء تجعلك في دوامة من الألق كثيرِ المزالق والبهرجة وطوبى للناجين المتعلقين بأستار كعبة الشعر وحجرها الأبيض الفريد..

ذهبت للمشاركة في أمير الشعراء وزادي نصي الراهن، هناك كانت باكورة تفتُّح براعم الشعراء الشباب الحاليين، حيث الجميع ورث قصيدة الشطرين، وبلغوا مرحلة متقدمة في قصيدة التفعيلة، والتي لم تكن لتقدم أكثر مما قدمته قامات عملاقة سبقت مرحلة “الربيع العربي” بعقد أو عقدين حيث تطاولت تجاربهم بعد جيل درويش والماغوط وأدونيس لتختط لنفسها تجربتها الخاصة، لن أوغل كثيراً في هذا المنحى، بل أعود للقول إن بذرة الاختلاف الشعري كانت واضحة لدى شعراء من سورية والعراق والسودان من بين المشاركين والذين احتككت بهم، والتي أثمرت فيما بعد أصواتاً وتجارب هامة خلال العقد الذي تلا موسم مشاركتي 2013.

بات الشعر بشهادات الغبار الالكتروني، والشعراء بألقاب تخجل من تعدادها ووصفها بل وذكرها

لم أضع نصب عيني اللقب، ولا السَّعي إليه، بل اعتبرت مجرد القبول والمشاركة حتى الحلقات النهائية هي اللقب بعينه، كان يكفيني وقتها الإفصاح عن تجربتي الشعرية والتعبير عن مدى نضجها، كنت باختصار ولا أزال وسأبقى أنافس نفسي وحسب..

كان نصي العمودي واضحاً مكتملاً، والتفعيلي يعتمد الموسقة والسردية وبالتالي الغنائية، لم أكن أترك قلمي ليكتب المطولات العمودية الممجوجة الطول، ولا النص الطويل المبالغ فيه، بل كنت أؤدي فكرتي بفنية وقتها كنت أراها عالية، وبالوقت نفسه بنص خال من الحشو متقن البنيان، إثر عودتي ذهبت للتكثيف والتخييل أكثر، حيث جربت لسنوات تجربة البيت الواحد أو النص القصير والذي لا يتعدى البيتين إلا إلى الخمسة في أقصى تقدير، عملتُ على الصورة الشعرية وبالوقت نفسه كنتُ قد تشرَّبتُ الموروثَ الشِّعريَّ العربيَّ، ولكن كان الأوضح هو اتجاهي نحو النص الروحي، كنت أعتمد الشعر قيمةً إنقاذيةً للرُّوح من ظلام المادة المطبق والذي زاد عتمة بعد أحداث الربيع العربي، كنتُ وبحكم بيئتي وفطرتي ويقيني بالشعر أعتمده قاربَ نجاة، بساطَ صوفي، يسعى للعلاء واللوذ بالخالق، بل وذهبت إلى أبعد حيث كان الشعر معادلاً للحياة والحب وأسميتهم الثالوث الماسي للشعر..

الآن لم تبق ثمَّة روحٌ تتوهَّج، بل بقية مجذومة منها تتآكل بفعل التشيؤ وانعدام الثقة والصلة بين أهل الطيبة والجودة من جهة، وأهل الفساد والظلام من جهة أخرى.. وأتساءل: ترى ما مستقبل الشعر.. وأين هم الشعراء الآن.. وأين الوطن الذي حلمنا بأن نبنيه لبنة لبنة؟ للأسف كان الشعر معادل الوطن والحب والجمال فأين كل هذا؟

الشعر فقد منبريته، ومنبرُهُ فقدَ ثقة الجماهير وكرامة الشعر… وكم كان منبر الشعر فناراً وبوصلة للتائهين. لم يعد يهزنا من الصميم والوجدان نص شعري ما إلا ما رحم ربك.. الشعر تشيَّأ هو الآخر فبات سلعة عديمة الجودة، في كلِّ يوم تفقسُ بيوضُ وسائل التواصل الاجتماعي عن قطيع جديد من ذوي الألقاب غير الشعرية والنوادي والشلل وطاعون الظهور السريع والتسيُّد. بات الشعر بشهادات الغبار الالكتروني، والشعراء بألقاب تخجل من تعدادها ووصفها بل وذكرها.

باتت القامات ترضى أي تكريم من أي مكرِّم ولو كانوا جميعاً أدنى منه منجزاً وقيمة وقامة. بات المثقف والشاعر الذي كان قبل عقد الأزمة ثقةَ مجتمعه ومحورَ اهتمامه ومحطَّ تقديره واحترامه، انتهازياً أنانياً بألف وجه ووجه.

بات الناقد ينقد وهو غير مؤمنٍ بمن ينقد له ولا بمنجزه ولا به حتى.. امَّحت الحدود بين كون الكاتب شاعراً أم روائياً أم قاصاً الخ.. صار أكثر الشعراء روائيين ونقاداً، صارت “القراءات الانطباعية” تحت بند “التسويق لأي كان ولكل شيء” بضاعة من لا بضاعة له، بات من يكتب عدة مقالات باحثاً، ومن يصدر عدة مؤلفات مفكراً، ومن له عدة دراسات قد يصبح بعدها ناقداً، في غياب شبه كامل للنقد كحركة كان لها دورها في ترميم بوصلة النصوص الإبداعية والتجارب الحقيقية فيما سبق..

شراء المشاركات في المهرجانات الكبرى، وتسوُّل وتوسُّل القائمين عليها لأجل المشاركة، ما أنتج طبقة من الضَّحالة الثقافية أدَّت إلى هشاشة المشهد الثقافي وغياب أهم الأصوات عن هذه المنابر، بسبب أمراض ضربت الوسط كالشللية والشخصانية وتضخُّم الذات وممارسة الإقصاء والتهميش والتسييس

 

  • المشهد السوري المربك بعد عقد دموي، ماذا خسرنا وماذا ربحنا ثقافيا؟ حدثيني عن رؤيتك وقراءتك للأمر

تسألني عن المشهد السوري المربك بعد عقد دموي، ماذا خسرنا وماذا ربحنا ثقافياً؟ وأقول بل المشهد المربَك والمربِك معاً، لقد خسرنا الكثير بعد كل هذه المشهدية أتعلم ماذا؟ لقد خسرنا وطناً كان من أولى مهمات المثقف أن يدافع عنه بصلابة ويتمسك به لا أن يفر منه، أو يفر منه إليه منكفئاً لا مشروعَ عادلاً يؤمن به لكي ينقذ ما ضاع وسيضيع.. المثقف مربك أضاع البوصلة كل ما يفهمه أنه لا يزال يعمل في الثقافة والأدب كعمل، لكنه في الحقيقة نُذِرَ لدور أكبر وهو المجابهة والعلنية وتطابق القول مع الفعل وليس السكوت على الصغائر وشراء الضمائر..

لقد سببت الحرب السورية شرخاً عميقاً بين ما قبلها وما بعدها لن يلتئم ولن يندمل لعقودٍ قادمة، وستبقى أحداث الأزمة شاهداً على تفتت مجتمعٍ هجره أبناؤه المثقفون وتخلى عنه أقلامه البارُّون وعاث فيه البقية الفاسدون فساداً، هجروه لضغائن وهنات واختلاف في الآراء وانقسامات في المواقف فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر والوطن هو دافع الفواتير الباهظة من عمر الأجيال القادمات.

إننا في أحطِّ عصور الانحطاط، والمثقف الآن شاهد زور، ومن شهد بالحق هُمِّش ونُحِّي وحوصر وبات كالنَّشاز… بل يرى من الأشرف له أن ينأى بنفسه عن كلِّ هذا الواقع مراقباً كاظماً الغيظ، عن أن يكون شاهد زور أو متفرجاً سلبياً لا يستطع فعل شيء أو تغيير شيء…

فما الذي يجعلنا نستنهض ونسترجع أفعالَ ومواقفَ قاماتٍ هامةٍ على مرِّ التاريخ تطابقت أقوالها كتنبؤات لما وصلنا إليه، سوى أننا فقدنا ليس فقط قاماتنا بل وأصواتنا أيضاً…

قد يبدو حديثي هذا ملؤه السواد والسوداوية لكنني أثبت وجود شموع كانت وبقيت وشاخت ولكن لم تبع قلمها بل تواصل إزهار إبداعها ولم تتخل أو تبخل برؤاها هي الأصيلة الوفية التي لم تستطع ترك البلاد ولا الثقافة ولا الإبداع… لكنها لا تشكل فعلاً تغييرياً فعلياً ولا حتى مشروعاً لوقف التدهور…

أثبت جهوداً خيرة وعقولاً نيرة تحاول بقدر استطاعتها الثبات والصمود واستمرار الفعل الثقافي الخلاق فيما هو متاح من هامش، بل وتخلق هوامش ونقاطاً مضيئة تعمل عليها للنهوض بالواقع الثقافي على الرغم من مشهدية الحرب…

لم يعد الاعتماد على اصطفائية الزمن وغربلة الغث من السمين نافعاً،  بل نحتاج نهضة ثقافية فعلية كبرى تضخ الدم في شرايين الوطن المذبوح، وتعيد لأقلام قلَّة حرَّةٍ بعضاً من كرامة الصمود…

 

  • عن ليندا وحياتها خارج الشعر، سعاداتك ومباهجك، أحزانك وآلامك، عن سوريا والمجتمع حدثيني عنك خارج نصك

أما عني وعن حياتي خارج الشعر، سعاداتي ومباهجي، أحزاني وآلامي، عن سوريا والمجتمع، عني خارج نصي، وهل يملك لسان حالي سوى أن يلهج مع الجواهري:

وحين تطغى على الحرَّان جمرتُهُ                  فالصَّمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليه فمُ”

“وإنما أنا من أوجاع مجتمعٍ                      جرحٌ، ومن جذوات عنده ضرمُ

نياطُ قلبيَ أوتارٌ على قدر                        مما يزعزعها من أمره النَّغمُ

الشعر وطني، والوطن ضميري الشعري ومداد قلمه ونسغ قلبه، سعادتي في وطني أن أراه أفضلَ وحراً كريماً، مباهجي في أن أشهد حدثاً ثقافياً وطنياً جامعاً كلَّ الأطياف والأطراف وعلى أرض الوطن، علَّنا نعيدُ حقَّ وكرامة أدبائنا ومثقفينا الشهداء أمثال بشير العاني وخالد الأسعد وغيرِهم ممن استشهدوا متألمين متأثرين بجراحات سوريا، علَّنا نعيد رأس المعرِّي إلى جسده، وعقله إلى عقولنا وفهمنا وإدراكنا، علنا نعيد للمثقف الحق كلمته الفصل ورأيه الراجح، إحدى مباهجي أن أرى الأقلام والهامات والعقول تتدفق على سوريا وليس تأخذ خيرة عقولها وتمتص عصارات علومها وتفوقها ونبوغها لقرون وقرون، إحدى أهم مباهجي أن أطوِّر تجربتي لأترك إرثاً أحلم أن يكون جديراً خالداً لا عابراً مرور الكرام على المشهدية الراهنة، أحزاني على طبقات ما أن أتشرب واحدة حتى تثملني التالية، حتى بت امرأة من حزن وكائناً من ألم، وربما هو قدر الشعراء… تكاد تكون راحة روحي الوحيدة حينما أنجز نصاً جديداً مختلفاً، وهنا مفردة مختلفاً هي ما أتوقف عندها تطويراً لتجربتي، فلا أكتب لغاية الكتابة واستمرارها والنشر واستمراريته، بل لغاية أن أحدث نقلة في تجربتي من كل الجوانب…

أنا داخل نصّي أنا خارجه..

وكون عملي في ميدان الثقافة، وتسلمت عدة مواقع ثقافية إدارية، وعضو اتحاد الكتاب العرب، فأنا أتماهى مع الشأن الثقافي العام والعربي والمحلي، بشكل أعيشه في كل أوقات أيامي وحياتي، طامحةً للأفضل وللأجمل وللأنبل…

أما أنا في مجتمعي فأكاد أعيشُ عزلة الحقِّ بين ركام الباطل، يكفيني صديقٌ أو اثنان، وصديقةٌ أو اثنتان ولَيْتَهُم من داخل الوسط فأستطيع التنفس أكثر… صديقي الأعز والأهم الكتاب وشغلي الشاغل الكتابة…

أنا داخل نصي كأنا خارجه، مهمومة بكل ما من شأنه ثقافة تنعكس في سلوكيات وإبداع مَنْ حولي لأرى وطني “غاية تشرف وراية ترفرف”…

 

 

قد يعجبك ايضا