23 إبريل 2023
وسام كنعان- دمشق
مات محمد قنوع! بكل ما تحتمله الفجيعة وما ينضوي عليه الهول. الخبر أكيد حتماً. نبحث هنا وهناك عن منفذ ولو بحجم خرم إبرة فلا نجد. نحاول تقفي بصيص ضوء عسى أن يكون الموضوع مجرّد إشاعة، فلا نعثر. نتصل مراراً لكن للأسف، لا أحد يجيب! صار واجباً أن نزيد بعد اسمه (1973/2023) إذاً 49 عاماً ليس أكثر وقفز أبو مروان إلى العالم الآخر. لكن مهلاً! كيف حصل ذلك. كنّا معاً قبل يومين. سهرنا حتى الصباح بدعوة على السحور من المخرجة رشا شربتجي. قبلها طلبنا منه أن يسجّل لنا فيديو يحكي فيه عن أمنياته من منصة «نص خبر» وانطلاقتها الجديدة، فقال بكل ما عرفناه عنه من شهامة وفروسية «حاضر، لكن انتظروني حتى الغد لأني في بيت الله الحرام أطوف مؤدياً مناسك العمرة».
وبالفعل لم يخلف وعده كما كان كلّ عمره. سجّل وأرسل الشريط القصير محمّلنا قبلاته وموقعاً عليه باسمه الذي عرفه الجمهور خلال ثلاثين عاماً، وربطه بالاحترام والوزان ومسايرة الحالة المجتمعية والانسجام معها، دون أن تفسد مهنته للودّ مع محيطه أيّة قضية! الرجل كان ابن بيئته بتصالح ملفت. وأبهى ما وسمه أنه لا يجيد التزلّف أو الادعاء، ولا يخجل بمعتقداته ولا بصلاته ولا بامتناعه عن الخمر مثلا، ولا بمجاهرته علناً بأنه لا يريد لابنته أن تخوض في مهنة التمثيل، ولم يفرض عليها الحجاب، لكّنه كان يبدو مرتاحاً غالباً لخياراتها. قد تختلف معه لكّنك مرغماً ستقدّم له فروض الاحترام، وتقبّل كلّ هذا الصدق الطافح من سلوكياته. وإن كان لابد من ذكر محاسن الأموات فالأمر هنا محقق لا محال، لأننا أمام رجل يمتلئ بالصفات النبيلة، والتهيّب الدائم لتقديم العون لكلّ من يبتغيه أو يطرق بابه!
كلّ ما كان يدور في مخيلتنا منذ انتشار الخبر المهول، تلك الأمسية الحزينة التي فارقنا فيها المخرج مروان قنوع والد محمد. عندما استطرد المقرئ بالدعاء للفقيد في مجلس العزاء، فغلبت محمد قنوع دموعه. يومها كتبنا له: «نعرف أنه عندما يموت أبوك تنهار زاوية سكينتك! يتهدم الجدار الصلب الذي تتكئ عليه حياتك! ولو كان مجرد خيال يبقى ملاذ خوفك، بهجة قلقك، ورفيق عتمك، مؤازر ضعفك، وخليل بأسك، وربيب نعمتك، ومعلم خطواتك الهشة المتعثرة لتصبح أصلب… يد الله التي توقفك عندما تقع، وروحه المقدسة التي تسيجك كلما اسودت أيامك … أول جبهة حاربت الظلم لأجلك… والأخضر المبهج الذي أطل عليك منذ مقتبل عمرك! لكنه مشوار مرسوم! (..) نعرف أيضاً أن أيامك الأخيرة لم تكن بأفضل أحوالها، ربما تكون قد تألمت بسبب الهجوم الشخصي من زملائك مرات، ومحاولة النيل من جهدك والعمل على إفشالك والشماتة فيك مرات أخرى! كان بادياً توترك وأنت تقرأ شائعات قذرة تفيد زوراً بأنك تعرضت لحادث! عموماً الشدائد تحكّ معادن الرجال! لذا نذكر تماماً وقفتك إلى جانب كلّ ضعيف! ولهفتك يوم حاصرتنا الحرب.. نذكر أنك لم تخذل كل من تراه صديقك.. وأنك تستحق شهادة لله وعلى الملأ بأنك رجل في زمن فاض بأنصاف الرجال. وممثل يستحق الاحترام في وقت هدر بما فيه للدخلاء… دموعك ليلة الأمس كانت موجعة توقظ زحمة من طيف الراحلين امسحها وأكمل… مازالت تنتظرنا الحياة!« لكّن الحياة كانت أقصر مما نتخيّل ونتمنى وهذه المرة علينا أن نرثي محمّد نفسه.
ابن العائلة الفنية، الذي اشتغل لسنوات على المسرح الكوميدي «دبابيس» تحت اسم «الأخوين قنوع» قوامها أحمد وعدنان وهاشم ومروان. الأخير ممثل ومخرج البث المباشر في إذاعة دمشق، وعرّاب محمد، وربما ملهمه وصاحب الفضل بأن يشعل في روح ابنه هوس الفن المتقّد إلى الأبد، لا يمكن لشيء دنيوي أن يخمد لهيبه. لكن رغم ذلك، سيمنع الأب ابنه من الدخول إلى «المعهد العالي للفنون المسرحية» وسيجرّب إقصاءه عن العمل في الفن، ويغلق باب فرقته في وجهه لسنوات عدة، لرغبته العارمة بأن يختار درباً أقل وعورة وخيبات أمل. لكن شغف الابن كان أقوى. ورغم دراسته السياحة، توجّه الشاب اليافع نحو «المسرح الشبيبي» وحصد جوائز في «مهرجانات دمشق».
لاحقاً، انحرف بمسيرته نحو بداية تلفزيونية خاطئة استهلّها في الإعلانات التجارية. لكنه ترك حالة إيجابية في حضوره البدائي هناك، وتعلّم كيف يقف أمام كاميرا. لاحقاً سيتمكّن وريث «فرقة دبابيس» من الوصول إلى منصّة «مرايا» ويبدأ في اللعب في السلسلة الكوميدية الأكثر شهرة في تاريخ التلفزيون السوري، وأمام كوميديان بحجم ياسر العظمة. منذ عام 1995، صار محمد قنّوع ممثلاً أساسياً لا يمكن استبداله في سلسلة «مرايا». التجربة فتحت ذراعي الكوميديا أمامه، وصار يحسب حسابه في غالبية الأعمال الكوميدية السورية، فيما ساهمت صراحته المطلقة وقوله الأشياء كما هي في وجوه زملائه في تداول معلومات غير دقيقة عن كونه «اللئيم». الصفة لازمته في أدوار الشر التي لعبها ببراعة. أينما يكون، هناك دور لشخصية تجسد النذالة والوصولية والانتهازية، يمكن أن يكون قنوع مرشحاً لتجسيدها، والنجاح بها بعدما تمرّس على هذه الأدوار التي يعرف جيداً كل قريب من صاحبها كم هي بعيدة كلياً عن شخصيته الوديعة في الحياة. المسيرة الطويلة جعلت صاحب الشخصيات البارزة في مسلسلات مهمة مثل «غزلان في غابة الذئاب» (فؤاد حميرة رشا شربتجي) و «الولادة من الخاصرة» (سامر رضوان ورشا شربتجي وسيف الدين السبيعي) يتسلّم إدارة شركة إنتاج سورية هامة هي abc )صاحبها عدنان حمزة) ويبدأ تجيير علاقاته الطيبة وفهمه القديم للدراما لصالح ما يمكن أن تنجزه هذه الشركة. هذا العام أطلّ قنوع للمرة الأخيرة في دورين متباينين للحد الأقصى. الأوّل في «زقاق الجنّ» (كتابة محمد العاص وإخراج تامر اسحق) أما الثاني فقد كان في «العربجي» (كتابة عثمان جحى ومؤيد النابلسي وإخراج سيف السبيعي) وفي هذا العمل قطف ثمرة نجاح وجهد واضحين عندما أدى الشخصية ببراعة ولعب كركتراً مذهلاً بنى له صيغاً لفظية تنسجم مع روح الشخصية الادعائية وكساه بشكل خارجي مبالغ فيه فحصد إجماعاً نقدياً وجماهيرياً وعندما ماتت الشخصية رسم على صورتها خطاً أسود ونعاها على حسابه الشخصي قبل أيّام دون أن يعلم بأنها لن تغادر أذهان الناس قبل ان تأخذه معها لتكون آخر خطوة محفورة في وجدان الجمهور!
*يشيّع الراحل اليوم الأحد عند تمام الساعة 2.30 ظهراً من مشفى دار الشفاء في دمشق ليصلى عليه عقب صلاة العصر في جامع المزّة الكبير في حيّ الشيخ سعد ثم يوارى الثرى في مقبرة المزّة. تقل التعازي في صالة دار السعادة قرب برج تالة في المزّة. للرجال أيّام: الأحد والاثنين والثلاثاء من الساعة 7 حتى 10 مساء. وللنساء يومي الاثنين والثلاثاء منذ الساعة 2 حتى 4 عصراً.