جمال عواد – كاتب وباحث موسيقي من سوريا
من الملفت للنظر أن الكثير من المحطات التلفزيونية و الإذاعية، تفرد حتى اليوم فقرة من فقراتها لبثّ أغاني التسعينيات. ويبدو أن الشريحة التي تستسيغ أغاني تلك المرحلة تجمع طيفاً واسعاً من المستمعين المختلفين في الذوق نتيجة اختلافهم في السن. و قد لا يختلف النقاد على حدوث نوع من الفورة الإنتاجية الموسيقية في تسعينيات القرن الماضي، و إن اختلفوا على تقييم هذه الظاهرة من حيث كونها فورة أم ثورة موسيقية.
نستطيع ملاحظة توفرعوامل في أغاني تلك الفترة، لم تتوفر لأي مرحلة من مراحل تطور الأغنية العربية. أهمها الدور الهائل والسطوة الهائلة للمحطات الإعلامية الفضائية التي نسفت كل الحدود، وحاولت وضع معايير جديدة للذوق الفني، مما جعل الأغنية مجالاً واسعاً للاستثمار المالي والسياسي والاجتماعي. إذ أصبح الاستثمار في خلق النجوم، الشغل الشاغل لأصحاب رؤوس الأموال.
بدأت تلك المرحلة بمواسم التسعينيات من البرنامج اللبناني استوديو الفن، الذي تخرج منه عدد من النجوم في مواسم سابقة. فقد تميزت تلك المواسم بإتقان أدى إلى احتكار المحطات اللبنانية للمشاهدين العرب من كافة الأجيال. وقد استعان المتسابقون بأغانٍ كلاسيكية تميزت بالمستوى العالي، يقوم بتحكيمها نخبة من الفنانين الكبار، و هو ما قرّب تلك الأغاني من ذوق المشاهدين الشباب آنذاك، مع رضى المشاهدين الأكبر سناً الذين تقبلوا مبدئياً الوجوه الجديدة مثل راغب علامة و عاصي الحلاني، وائل كفوري و رامي عياش. مع الإشارة إلى ظهور فنانين أثبتوا أنفسهم بعيداً عن حمى المسابقات، مثل جوليا بطرس وغسان صليبا. وقد حدث ذلك كله على خلفية متابعة كبار المطربين القدامى لسلسة إبداعاتهم العظيمة، مثل صباح، فيروز، وديع الصافي، إيلي شويري، جورج وسوف، ملحم بركات و غيرهم من الذين ساهموا في خلق بيئة تنافسية حامية الوطيس. و قد أثرت هذه البيئة المغطاة بالإعلام الفضائي على كامل الوطن العربي. ففي مصر، و بالرغم من تواضع نوعية الأغنية بالمقارنة مع الكم الهائل، فقد برز هناك عمرو دياب و أنغام، إيهاب توفيق، محمد منير. و كذلك الأمر في الخليج العربي الذي شهد نهضة موسيقية حقيقية، وبدأت أغانيه تغزو الوطن العربي، فاشتهر نبيل شعيل وخالد الشيخ وعبد المجيد عبدالله وراشد الماجد. ومن العراق اكتسح كاظم الساهر أسماع الناس في الوطن العربي. وشهد المغرب العربي ظهوراً لافتاً لأغنية الراي عن طريق شاب خالد وشاب حسني، كما انتشرت أصوات بديعة جداً مثل صابر الرباعي وذكرى.
تميزت أغاني التسعينيات بعدة سمات مشتركة، أهمها انتشار الفيديو كليب وتطور أساليب التسويف والإعلان، وظاهرة الألقاب
تشترك أغاني التسعينيات بانتشار واسع لظاهرة الفيديو كليب، وتطور أساليب التسويق والإعلان الجديدة، فشاعت ظاهرة الألقاب، مثل “شمس الغنية”، “فارس الأغنية العربية”، “سلطان الطرب”، “بلبل الخليج”، ونشطت المحطات الفضائية المملوكة من قبل شركات الإنتاج والتوزيع الفني العملاقة كمؤسسة روتانا التي احتكرت إنتاج قسم كبير من النجوم. كما تميزت تلك الفترة بانتشار اللهجة المصرية في الأغاني أكثر من غيرها حتى بين المطربين الخليجيين. ولكن تمايزت أغاني تلك الفترة بانتمائها لفئتين أساسيتين. الأولى هي الفئة التي نَحَت المنحى التقليدي للأغنية الشعبية، والتي اعتمدت غالباً على قالب الطقطوقة، وعلى مقامات محددة محبوبة شعبياً، وإيقاع لا يخرج إلا نادراً عن أسرة إيقاع البلدي أو المقسوم. وقد تشكلت من هذه الموجة ما سمي آنذاك “بالأغنية الشبابية”، لدرجة أن فنانة مخضرمة مثل وردة، تأثرت بتلك الموجة وقدمت هذا النوع من الأغاني كألبوم “بتونِّس بيك”، بالرغم من أنها مع أمثالها كميادة الحناوي، قد أسسوا شهرتهم على خط مشابه لخط الأغاني الطويلة و المتنوعة المقامات والإيقاعات كأغاني أم كلثوم. أما الفئة الثانية، فكانت عبارة عن محاولات قليلة نسبياً للتجديد في القالب والمضمون، وكان من روادها الفنان العراقي كاظم الساهر حيث أقبل على تلحين القصائد ومعه جزء مهم من مطربي الخليج.
من سمات أغنية التسعينيات أيضاً، التنويع الشديد في الصورة الصوتية، و ذلك باستخدام أنواع الآلات الموسيقية و الأساليب المأخوذة من ثقافات الشعوب الأخرى. فبينما شرقت نجوى كرم باتجاه الهند و “سيتارها” في أغنية “ولهانة”، غربت أصالة إلى إسبانيا بإدخالها أسلوب الفلامينكو للجيتار الإسباني، مع صوت خوسيه فيرنانديز في “يا مجنون مش أنا ليلى”. حتى الفنان الراحل العظيم وديع الصافي قام بتجديد بعض أغانيه و أدائها مع المغنى خوسيه فيرنانديز. كما ذهب عمرو دياب إلى إيقاع clave العالمي و الأكورديون الفرنسي في “حبيبي يا نور العين”. و أدخل البعض الآخر نمط scat (غناء مقاطع لفظية بدون كلمات ذات معنى) كما فعل زياد الرحباني في بعض أغانيه للسيدة فيروز. و تميزت تلك المرحلة أيضاً بظهور واضح لتوزيعات قصيرة و قلقة في الخلفية تستخدم التناقض بين أسلوب الستاكاتو(نوتات قصيرة مقطوعة النهاية) و الليغاتو(نهاية منسرحة) للوتريات.
دخلت موسيقات عالمية على أغنية التسعينيات بشكل واسع
و من أهم المطربين الذين بقيت أغانيهم منذ تلك الفترة، هاني شاكر الذي حافظ على الرومانسية و مسحة الحزن في أغانيه، لدرجة جعلته أيقونة البكائيات العاطفية الرومانسية. كما حلق ملحم بركات بأغانيه الشرقية الأصيلة بأسلوب خاص منشق عن المدرسة الرحبانية، و هو ما فعله أيضاً العظيم الراحل إيلي شويري الذي طرح مجدداً ألحانه البديعة و الكلاسيكية بصوته الرائع و بأصوات جميلة أيضاً كصوت صباح و ماجدة الرومي و غيرهم. و تابع كاظم الساهر تجربته الموسيقية كملحن و مطرب في نفس الوقت، و استفاد جورج وسوف من وصول صوته في التسعينيات إلى أقصى درجات جماله، فاستمر في حصد قلوب الشباب العربي، و ما يزال عمرو دياب يقدم الجديد دائماً لفئة الشباب الذين ما زال يعتبر نفسه منهم حتى الآن. و هو الشيء الذي لم يستطع محمد منيرأن يفعله بنفس الكفاءة، فصار يحاول متابعة خصوصيته في الغناء و انتقاء الكلمات المصرية المحلية لجذب جمهور عربي كبير فأعطا الجمهور باقة جميلة من الأغاني التي أرضت كل الأذواق. بينما تتابع جوليا بطرس في تربعها على عرش الفن الجميل و الرصين. و في الختام يمكننا القول أن سطوع تلك المرحلة من مراحل الأغنية العربية، لا يعود بالضرورة إلى تفوقها الفني على غيرها من المراحل، بقدر ما يعود إلى الثورة الإعلامية التي أظهرتها أكثر من غيرها. كما أن السؤال عن الحالة التي وصلها الذوق العام للشعوب العربية ( و غيرها أيضاً) ما زال يثير الجدل بين الفنانين و المفكرين و النقاد.