24 أبريل 2023
حاوره: هاني نديم
في السنوات الأخيرة، برز المخرج السوري محمد عبدالعزيز بأعماله اللافتة في الدراما السورية، محمد عبدالعزيز القادم من السينما بمفاهيمهما وذهنيتها وثقافتها يؤسس لالتقاطة جديدة وزاوية مختلفة يقدم أعماله بها. أخرج هذا العام مسلسل النار بالنار، المسلسل الذي شهد جدلاً رافق نجاحه المبهر. حيث تبرأ رامي كوسا، صاحب القصة الأصلية من العمل، خاصةً وأن النار بالنار هو تفكيك للغم العلاقة السورية اللبنانية اجتماعياً في السنوات الأخيرة.
نص خبر التقت محمد عبدالعزيز وسألته:
- كثر اللغط حول فرق النص المكتوب عن المخرج النهائي، ما قولكم في هذا؟
-نعم تعرض النص لأكثر من تعديل على عدة مراحل فالنص بدأ بحلقاته الأولى مغرياً ومتماسكاً ولكن بعد الحلقة الخامسة بدأ يتفكك ويضمحل بنيوياً، وبالتالي سينعكس هذا الاضمحلال على الحبكة وشبكة العلاقات وتطور ونمو القصة وبالتالي بدأت التحولات تظهر بشكل مبكر مما أدى الى نهاية الصراع من حيث بدأ. لذا كان لابد من التعديل الذي تم بموافقة كاتب النص عبر ورشة عمل مع نجوم العمل وفريقي الفني بإشراف الشركة المنتجة.
المشكلة الأخرى أن طبيعة النص والحكاية من الصعب قصها في ثلاثين حلقة، وهذا أيضاً سبب بعض الترهّلات في عدة مفاصل. أضف لذلك غياب الحامل الأساسي الجوهري للبناء العام والذي بقي غائباً، فعند سؤال الكاتب ما الذي يعالجه وما الذي يريد قوله وعن ماذا هذا النص؛ هل هو عن العنصرية؟ هل هو عن الحب بين ثلاثة أطراف؟ هل هو عن الفرد في ظل الأزمات الجماعية؟ لم يكن لدى الكاتب رؤية واضحة عما يعالجه نصه، وكان من الواضح إنه رمى في الإطار عدة بذور وشخصيات وعليها أن تجد طريقها للتشكّل وهذا ما سبب أيضاً الكثير من التشتيت والتبعثر، ومع غياب كيفية نهاية القصة ومصائر الشخصيات، وهذا أيضاً ما لم يكن لدى الكاتب تصور عنه، لإنه لم يكن قد أنهى سوى 18 حلقة. فكان من المستحيل بالوقت المتبقي للعرض الرمضاني تفكيك البنية وإعادة بناء المفاصل الأساسية للنص. لذا أنصب جهدي مع الشركاء لترميم الفجوات والشروخ العميقة التي بدأت تظهر بعد الحلقات الأولى لا سيما إن التركيز على مفردة العنصرية التي عالجها النص بشكلانية دون الغوص ومعالجة جذورها وأسبابها درامياً سرعان ما ستظهر فيما بعد أثر تلك الشكلانية كطفح على مجريات الأحداث مع التقدم البطيء للقصة.
أما مسألة تجاوز الكاتب والتعديل على النص فهناك ظروف تستدعي ذلك منها عندما يعيد الكاتب صياغة النص لأكثر من مرة وتكون النتائج ذاتها هزيلة وركيكة فالعودة إليه مع اقتراب زمن العرض هي مضيعة للوقت، وللمزاج الفني والفضاء الذي يتم فيه تحويل الإنشاء لصورة من لحم ودم مع المئات من الشركاء المشاركين كل من موقعه في النتاج النهائي للمادة البصرية ضمن الرؤية الإخراجية العامة بطبيعة الحال.
إنني أنظر للسيناريو التلفزيوني كوسيط قابل للتطور والنمو في كل مراحله، ولكن عندما يكون هذا الوسيط يستوفي الشروط المنهجية بصرامة شديدة لمتطلبات بناء الحكاية التلفزيونية وهذا ما افتقدناه للأسف في نص النار بالنار رغم حماسي الشديد للحلقات الأولى التي وجدت انها تحفة وأيقونة يمكن الإنطلاقة منها لعمل درامي متفرد ولكن مع التقدم بالقراءة بدأ النص بالإنهيار ولم يكن هناك بدٌّ سوى بترقيع العيوب البنيوية عبر الإبهار حيناً وأحياناً كثيرة عبر الأداء المتفرد لنجوم وشخصيات العمل الذين خطفوا الأنظار. ولكن بالنسبة لي كانت الحفر العميقة جلية ولا سبيل لسدها سوى بتغطيتها بتلك الحلول التي أصابت بمكان وخابت بأخرى.
كان من الواضح أن الكاتب رمى في الإطار عدة بذور وشخصيات وعليها أن تجد طريقها للتشكّل! وهذا ما سبب أيضاً الكثير من التشتيت والتبعثر.
- إن تفكيك لغم العلاقة بين السوريين واللبنانيين في السنوات الأخيرة، هو أمرٌ خطيرٌ جداً ولكنه واجب ومسؤولية، كيف تجاوزتم ألغام تلك العلاقة وقدمتم الرضا للجميع في النار بالنار؟
-نعم أوافقك بخطورة تفكيك لغم العلاقة السورية اللبنانية ولعل هذا من المغريات بالنسبة لي كمخرج قادم من خلفية سينمائية والذهاب لحقل مفخّخ بالإشكاليات وألغام التاريخ والجغرافيا والسياسة والكراهية والتمييز، ولكن كما ذكرت الحلقات الأولى التي كانت تبشر أننا ذاهبون إلى هذا الثراء الإشكالي أتضح فيما بعد إنه لم يكن بالغنى المطلوب ولضيق الوقت كان من المستحيل تفكيك البنية وإعادة بنائها كحامل رئيسي للحدوتة التي تحمل سمات تضارب قطبي الصراع مريم وعزيز وما سينتج من ذلك التضارب من كشوفات لطبيعة العناصر والمعطيات المشحونة بين الطرفين، وبالرغم من المساحة المحدودة إلا إنه ترك أثراً جيدا للمتلقي ولفت الأنظار نحو العمل ورغم قلة المشاهد التي تحمل الشحنة المحرضة للمكاشفة، ولكن مع الشركاء عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز قمنا بمعالجة وإعادة صياغة وكتابة المشاهد على قلتها، لتحمل الشرارة الحارة لطبيعة العلاقة المتنافرة بنبرة شديدة بين الطرفين كمحاولة جادة لفتح النقاش حول الالتباس فيما بين الطرفين وليس سراً إن الذهاب ونبش الفضاءات المشحونة والملغمة هي بمثابة الأوكسجين للدراما التلفزيونية خاصة وبلا ريب طبيعة العلاقة السورية اللبنانية بكل مستوياتها الاجتماعية والسياسية والتاريخية بكل تناقضاتها ومفرزاتها يلزمها أكثر من عمل ومعالجة وشخصياً أسير مطمئن القلب في الحقول الملغمة التي تجعلني يقظاً طوال الوقت.
يشغلني في الدراما التلفزونية النجاة من الثرثرة..
- ماذا يريد محمد عبدالعزيز من الدراما التي يقدمها؟ ما هي أولوياته وإلام يؤسس؟
-ليس من السهل السير بمشروع ذي حمولات فكرية يمثل ما يريده الصانع في السوق الدرامي التلفزيوني، فهناك عدة عناصر ومعطيات تتحكم بشروط الصناعة والبث تحول دون ذلك، أضف اليهم أن المتلقي للمادة التلفزيونية مشاهد كسول في العموم كمصطلح أكاديمي، يساهم في ذلك شرط التلقي المحاط بكثير من ظروف التشتيت ما يفرض على الصناع شكل المخاطبة البسيط، وهو ما قد يوقع الكثير في فخ الركاكة والتبسيط الضحل وينتج عن هذا الفخ ما يمكن تسميته “قوننة” وهذه القوننة يمكن تسميتها بقوننة الهشاشة! والتي تتحول مع الوقت وتتداول بين القيمين على الصناعة حتى تصبح مرجعاً ودليلاً شبه قاطع لإنجاز العمل التلفزيوني الذي يتصدر المشهد الثقافي العام، متقدماً على الأطر الأخرى الأكثر عمقاً وثراءً كالشعر والرواية والمسرح والسينما والتشكيل والنحت والموسيقا والفنون بكل تجلياتها المعاصرة. لذا يصبح من الصعب قول ما تريد قوله بشكل يستوفي شروط القول والبحث وإعادة صياغة الأسئلة الجوهرية حول الوجود والعدم والإنسان والحب والجمال والمحظور إلى ما هنالك من مساحات استطاعت الفنون الأخرى الغوص فيها إلى أبعد الحدود. دون أن يحدها مزاج الصناع وشروط العرض العام والمحظور الرقابي لذا بين الحين والأخر ترمي في تربة ما تنجزه بعض بذور الأسئلة الحقة بين عمل وآخر لعل وعسى من يلتقطها أو تنمو مع مرور الوقت وتتغير ظروف العرض والطلب فتمنو وتتنفس في بيئة حرة لا يحدها موظف رقابي ولا يعنيه متلقي متجهم ولا محطة عارضة بل تنحاز للإنسان، للفرد لكيماء الذات، للمعرفة الكلية وللجمال المطلق الذي لا يحده أين ولا يشيئه كيف ولا يسده حيث!
إن السينمائي الذي يأتي مرغماً لفردوس التلفاز أكثر ما يشغله هو النجاة.. النجاة من الثرثرة.