27 نوفمبر 2023
جوان ملا – دمشق
“قبل البدء بالحديث عن الموضوع، لا بُدَّ من التنويه على أن ما ستقرؤونه في هذا المقال يعود لما حصّلَهُ كاتب المقال من معلومات مما شاهدَ وَسمِعَ ورأى حول هذا العمل الذي أحدث جدلاً واسعاً حتى قبل عرضه، والعبارات التي سيسردها هي عبارة عن خليط من آراء تابعة له، ووجهة نظر، وتحليلات شخصية، ليست بالضرورة أن تكون دقيقة حرفياً لكن يمكن القول إنها أقرب للصحة والمنطق”.
قبل بدء رمضان الماضي 2023، قرر المخرج عامر فهد والكاتب حازم سليمان أن يعيدا الشراكة الناجحة التي قدماها في مسلسل “عندما تشيخ الذئاب” عام 2019 والذي كان عملاً ذكياً نخبوياً قدم الرواية الأردنية الشهيرة ضمن حارة شامية بقصص متميزة مع نخبة من نجوم الدراما السورية المخضرمين على رأسهم، سلوم حداد، عابد فهد، أيمن رضا، سمر سامي، وكان لهيا مرعشلي وأنس طيارة دورين مميزَين في المسلسل، بالإضافة لحضور متزن لسوسن أبو عفار، علي كريم، فرح الدبيات، وغيرهم، فقدمَ فهد للرقابة السورية نص حازم الجديد تحت عنوان “تحت الرماد”، الذي يتحدث عن حقبة مهمة من تاريخ سوريا تبدأ عام ١٩٩٤ و تنتهي عام ٢٠١٦، ليتطرق العمل إلى بيئة سورية ضمن حارة دمشقية فيها خليط من الأديان والطوائف يحدث صراع بينهم ديني علماني فكري، بحكاية قريبة الشبه من عندما تشيخ الذئاب ومن هُنا بدأت المشكلة.
سقف الرقابة السورية ينهار، ولبنان هو الحل!
رفضت الرقابة السورية النص على اعتبار أنه “يثير الفتنة” وذلك لما فيه من خطوط درامية حادة الطرح وحساسة رغم أهميتها على حك قولها، فالكاتب سليمان وضع الإصبع على الجرح بشكل واضح دون مواربة، وناقش حكايات شخوص سورية متشعبة الأفكار، فمنهم المتزمت، والمتدين، والعلماني، والمتطرف، ولم تَخلُ الحكاية من التعريج على “الاغتصاب والمثلية الجنسية”، وهذا ما لم تتقبله الرقابة في سوريا، فأعيد تعديل النص مرتين وثلاث دونما فائدة، فقد رُفِضَ إعطاء موافقة التصدير والتصوير داخل سوريا بشكل مطلق، وذلك في خطوة تراجعية واضحة للرقابة بعدما قدمت الدراما السورية حكايات ذات جرأة عالية سابقاً لا سيما في طرح القضايا الدينية، ومازالت أثيرة حتى اليوم منها مسلسلات ما ملكت أيمانكم، سقف العالم، الحور العين، المارقون وغيرها من الأعمال التي بغالبها للأمانة قدمها المخرج نجدت أنزور والكاتبة هالة دياب، بأسلوب جريء جميل ذي طابع فكري عميق، لتتحدث عن التطرف والتدين والإرهاب حتى قبل دخوله للمنطقة بهذا الشكل فبدت هذه الأعمال وكأنها تتنبأ بالمستقبل.
ويمكن اعتبار مسلسل تحت الرماد “دوار شمالي لاحقاً” من ضمن هذا النوع، لما فيه من قضايا ثقيلة مشابهة لما طُرح قبلاً، لكن للأسف بات سقف الرقابة أخفض من قبل بسوريا ولم يعد هناك مجال للحديث عن تفاصيل من هذا النوع بشكل واضح دون مواربة أو ترميز، وإلا فليذهب الكتاب والمنتجون إلى خارج البلاد، لذا، قرر منتج العمل الأردني إياد الخزوز والذي ساهم مشكوراً رغم سنوات الحرب بالحفاظ على هوية الدراما السورية بالتوجه فعلاً نحو لبنان لتصوير عمل سوري بالكامل، في بيئة مشابهة لسوريا وبيوت وحارات قريبة من دمشق، وذلك بغية الابتعاد عن تدخل الرقابة السورية ومقصاتها، والتكلم بحرية حول هذه القضايا، لا سيما أن العمل مضمون البيع لقناة أبو ظبي الإماراتية، وفعلاً بدأ التصوير مع نخبة من النجوم السوريين والعرب منهم أمل بوشوشة، عبد المنعم عمايري، كارمن لبس، فايز قزق، أحمد الأحمد، محمد حداقي، نانسي خوري، أنس طيارة، رنا كرم، هبة نور، مروة الأطرش وغيرهم من الفنانين المخضرمين من نجوم وشباب موهوبين وخريجين، وبدا كل شيء على ما يرام باستثناء مطالبات عدة من قناة أبو ظبي لتعديل بعض الخطوط الجريئة أيضاً، فمازالت القناة حتى اليوم لا تعرض مسلسلاً إلا وتقصُّ منه المشاهد التي لا تريدها حفاظاً على سمعة “الشهر الفضيل”، كما حصل في مسلسل كسر عضم سابقاً على نفس الشاشة، ومسلسل حلاوة الروح أيضاً، وبما أن هذا العمل دخلت فيه القناة بشكل مباشر، فقد تعدلت خطوط درامية كثيرة تمس موضوع الدين بالتحديد، فغُيِّبَت الشخصيات المسيحية وأصبحت على الهامش بعدما كانت محورية في الحدث، وخفف الكاتب من حدة الصراع الديني العلماني الذي كان موجوداً، والجرائم التي تحدث أيضاً، ورغم أن العمل بهذه التعديلات بَهُتَ عن النص الأصلي ذي العمق الواسع، إلا أنه حافظَ قدر الإمكان مع المخرج عامر فهد، على الرؤية المطلوبة، والطرح المفترض مع محاولات “اللف والدوران” على الفكرة الأساسية بالترميز أو الملابس أو الديكورات أو غيرها، فالرقابات العربية لا تمشي إلا بهذا الأسلوب!.
دوار شمالي، والحادث المفاجئ
سُمِّيَ العمل باسم “دوار شمالي” وللحقيقة هو عنوان مميز ويعتبر من أفضل العنوانات التي طُرِحَت مؤخراً في أسماء المسلسلات وذلك لرمزيته العالية، فأهل سوريا عموماً ودمشق خصوصاً يعرفون جيداً خط الميكروباص “الدوار الشمالي” الذي يجول من شمال شرق العاصمة السورية إلى غربها في مشوار طويل يومي منذ سنوات بعيدة، ويصعد لميكروباصات هذا الخط جميع الشرائح الساكنة في هذه المناطق، والتي تشمل “برزة، مساكن برزة، ركن الدين، الجسر الأبيض، الصالحية، المهاجرين، ساحة الأمويين، مشفى المواساة، المزة” وهي أحياء دمشقية عريقة يجولها هذا الميكروباص حتى يومنا هذا، لذا، فإن العمل اختار اسم خط الميكروباص للدلالة على المدينة وسكانها، وكيف انتقل فيهم من مكان لآخر.
وبدأت قبل شهر رمضان بقليل البوسترات الترويجية والمقاطع الدعائية الخاصة بالعمل حمّست الجمهور لاحتوائه على كوكبة كبيرة من الفنانين ذكرناهم سابقاً، سيروون حكاية اجتماعية سورية جريئة مختلفة “بتعبّي الراس” لا تستخف بالمشاهد ولا تُسطّح من ذهنيته، لكن للأسف وقبل أيام قليلة من رمضان، وبينما كان التصوير جارياً للعمل، أصيب دوار شمالي بحادث سبَّبَ فاجعة للقائمين على المسلسل، وهو قرار بسحْب عرضه من قناة أبو ظبي وإلغاء أي منشور يخصه فجأة، دون أي تبرير واضح وسط غضب واسع من الجمهور المنتظِر.
خلف الكواليس قيل إن العمل “طقّتلو برغي” إحدى الشركات المنتجة السورية، أي تم الفسد عليه لقناة أبو ظبي الإماراتية بأن المسلسل لم يحصل على شهادة تصدير وموافقة من سوريا، وأنه يسعى لبث الفتنة بين السوريين، وذلك لإزاحته من المنافسة، ويبدو أن القناة ليست على علم بذلك، ولا ندري لماذا لا تعلم بهذا!، لكن بالعموم، لا تهمُّ شهادة التصدير تلك إذا كان العمل بالأصل مصوراً خارج سوريا، ولا يخضع لرقابتها، إنما المغازلة السورية الإماراتية السياسية في وقتها كانت في أَوجِها، ولعبت لعبتها، لذا، ومنعاً لأي حساسيات بين البلدين، وحرصاً على عدم تشويه سمعة السوريين -كما قيل- قررت القناة عدم عرض العمل، ورغم نضال إياد الخزوز ومفاوضاته مع القناة حتى قبل أول يوم رمضان بساعات قليلة في دبي مع وعود بتعديلات واسعة تشمل النص والشخصيات أكثر من الذي تم تعديله ليتلاءم مع طبيعة المحطة العارضة ويتم قبوله سورياً، إلا أن كل المحاولات تلك باءت بالفشل، لينهارَ فنانو المسلسل وفنيوه بعد أن وجدوا أنفسهم خارج رمضان بعد شهور عمل مكثفة ومتعِبة أدوا فيها شخصيات مركبة حقيقية حدَّ الإشباع، فأكملوا التصوير حزينين دون أن يعرفوا ماذا يفعلون وإلى أين ستذهب شخصياتهم التي تنتهي في الحقيقة نهايات رائعة تحوّرت للأسف بعد التعديل النهائي بشكل كبير، وتعلن المحطة إلغاء العرض في اللحظات الأخيرة واستبداله بشراء المسلسل السوري “خريف عُمَر” كحل بديل، ففقدَ المنتظرون عندها الأمل!
هل سيُعرَض دوار شمالي يا ترى؟
تتجه الشركات المنتجة والقنوات العارضة اليوم بالعموم لتقديم أعمال سطحية لا أهمية فكرية لها، وكأنما هناك تآمُر مقصود على جعل الجمهور هزيلاً وسخيفاً ومشبَعاً بدراما لا تشبهه في شيء، كي يشاهدها على مدار العام ولا يشغِل دماغه، فلا داعي لأن يفكر، وليتابعْ بصمت، لذا فإن فكرة عرض “دوار شمالي” محفوفة بالمخاطر وبعراقيل عدة أبرزها “موافقة الرقابة السورية” على النص بعد التعديل عليه للمرة الألف، ومن ثم ضمان قناة أبو ظبي لهذه الموافقة ولرؤيتها في التعديلات أيضاً، ويبدو أن المنتج الخزوز، لم يستطع الخروج من عباءة أبو ظبي وبيع العمل لقناة أخرى بحكم أن الاحتكار أو التمويل “ربما” من القناة نفسها، ومن الغريب طبعاً أن تعادي القناة نفسها بنفسها!، لكن هناك سياسة تحكُم حتى لو لم تكن صائبة.
وإن لجأ الخزوز لقناة اليوتيوب أو المنصات، قد يخسر الأرباح بعد ميزانية كبيرة وضعها على العمل، لا سيما أن التصوير في لبنان أغلى تكلفةً من سوريا، وبالتالي فالتجارة غير رابحة، ومن حق المنتج أن يربح عموماً، سيّما أنه قيل إن هناك شركة إنتاج لبنانية دخلت على الخَط سراً لدعم العمل تسويقياً ومادياً.
والمؤسف في كل ما جرى أن المنتج الأردني قد يعزف عن الدخول إلى سوريا مجدداً أو تقديم عمل درامي سوري اجتماعي بحت، تردداً أو خوفاً أو تجنباً لـ “وجع الراس”، أو ربما يتجه “للشامي” أو “اللايت” ما يجعلنا نخسر منتجاً عربياً آخر قدمَ الفرص وبعض الأعمال الجيدة في الدراما السورية حتى في سنوات الحرب سواء اختلفنا مع منتَجِهِ أم لا وسواء اختلفنا مع إياد نفسه أم لا.
وهنا يأتي دور الفكر التحرري للقناة العارضة أو غيرها من القنوات أو المنصات التي قد تشتري العمل، فإما أن تعرض القصة كما هي دون قص أو تجميل أو رتوش وتقدم مادة دسمة للناس أو تبقى خائقة من المغامرة وتقول ” ما بدنا وجع راس” فيشترون الأعمال الشامية للتهرب، أو عمل لايت خفيف ليس فيه طرح لقضايا فكرية دينية علمانية ولا هُم يحزنون.
المقال هذا لا يبجل بالعمل ولا يعتبره عظيماً خصوصاً أنه لم يُعرَض بعد، والعرض التلفزيوني وحده كفيلٌ بالحُكم عليه، لكن مجرد فكرة منع عرض مسلسلات ذات طابع فكري مهم وقضايا شائكة تضيف للمشاهد أثراً، هي فكرة إقصائية مسيئة للدراما السورية بحد ذاتها، فليُعرَضِ العمل ولنجعلِ الجمهورَ يحكُم ويحاكم، لكن تخويف أو ترهيب أي منتِج سوري أو عربي من المجازفة في تقديم عمل ذي أثر فكري مخالف لتيار الأعمال السائدة وما يطلبه السوق سيبقى نصبَ أعيُن كل من يقرر الدخول في سوق الإنتاج الدرامي بعد ما جرى لدوار شمالي ويُبقي المنتجين راغبين في اتباع سياسة الاستسهال والحياد ومجاراة أفق الرقابة السورية الضيق، وبالتالي سيخسر الجمهور حتى لو مسلسل واحد في العام يطرح قضية حساسة تجعل المتابع يتساءل فقط ويحاول حل اللغز ومعرفة الأجوبة ويفكر ولو قليلاً، لكننا للأسف بتنا في زمن الدراما البلاستيكية التي تفوز بأكبر عرض جماهيري نتيجة كثرة البوتوكس والقصص السطحية والمكياج الجميل والديكورات المرتبة، أما الفحوى والرسالة فما الداعي لهما؟ إنهما غير مهمَّين.
وإن كنتم تبحثون في هذه السطور عن جوابٍ شافٍ كاملٍ عن إمكانية عرض مسلسل دوار شمالي في رمضان المقبل مثلاً، ستجدون الجواب في سياسات القنوات العارضة وما تشاهدونه على الشاشات اليوم من أعمال والمنافسة الدائرة خلف الكواليس بين الشركات المنتجة الأخرى، على أمل ألا ينحدر الفكر أكثر ويرى العملُ الضوءَ قريباً لنحكُمَ عليه، وإن كان غير مناسب للطرح كما قيل فعلاً سنكون أول الناقدين له، فنحن من يحق لنا ذلك كجمهور لا أحد آخر، لكن في البداية فلنفسحِ المجال قليلاً لنشاهدَ شيئاً جديداً ولْنَكُفّ عن تقييد حدود الفكر الدرامي ومقص الرقابة الجاهز في دماغ كل كاتب قبل أن يشرع في كتابة مشروعه حتى!.