مفيد البلدواي: أنظر إلى نهر الراين وأرى دجلة..

25 يونيو 2023

حاوره: هاني نديم

من نكد الأيام على الصحافي أن يكون صديقه اللدود القريب شاعراً مجيداً! إذ يقع في حيرة من أمره! هل أحاوره فيبدو الحوار من الإخوانيات، أم أتجاوز تلك التجربة وفي هذا ظلمٌ لا ترضاه الصحافة؟

والحوار يتطلب دراية تامة بين الطرفين حتى يكتمل، ولهذا هنالك أدباءٌ كثر أحبهم ولكن لست على اطلاع كافٍ لمحاورتهم والوقوف على تجربتهم، بينما مفيد البلدواي صديق نتحادث يومياً عن النصوص والشعر والشعراء وأمور أخرى متصلة بالضحك..سأحاوره أمري لله!

 سألته:

  •  هل كنت تتوقع يوماً أن أحاورك؟

– إجابتان لهذا السؤال المفخخ سأحتفظ بالاولى وأصرح بالثاني: كلما قرأت لك حواراً مع مبدع أو مبدعة أشعر بالغبطة وأقول مع نفسي: من أين يأتي هاني بكل هذا النشاط النملي إن صح لي أن أقول، نحن نتحاور يوميا تقريبا لكن حوارات أخرى تحاول أن تغير من عالمنا نحو الأفضل وليس حواراً عن الشعر وما يحيط به من سياجات بلاغية وفلاحات يحملن سلالهن فارغاتٍ بانتظار أن نرمي لهن فيها باقة وردٍ أو تفاحةً رداً لجميل أمنا حواء الأول حين منحت أبانا فرصة ليقول الشعر . بصراحة واختصار ً لا لم أتوقع لأنك تخشى أن نقع معاً في الفخ

 القصائد بكل أشكالها أهداف في مرمى الخصم.. في مرمى الصمت

  • ‎بين النثر والعمود تختار غالبا التفعيلة، لماذا اخترتها تماما وهل يعني لك الشكل حقاً. وما رأيك بقصيدة النثر العربية اليوم؟

– دائما كنت أقول وسأبقى: إن الشعر موجود في كل شيء، أحيانا تقرأ نصا مدهشاً في خطى أنثى تقطع عليك الطريق أو في وجه عجوز يلقي عليك التحية مبتسماً لكنّك ترى بلاغة وشعرية الحزن في عينيه. أما الأنماط الشعرية التي ذكرتها فقد تصالحت معها كلها، صلحاً أبدياً ولا ميزة لشكل عن آخر عندي، أما الميل للتفعيلة فهو حبٌ من باب (ولن تعدلوا ولو حرصتم). أجد فيها روحي وكل الملاعب التي قد أحرز فيها هدفاً ضد خصمي الموسوم بالصمت.

  • هل ظل معجمك عراقياً وانت في ألمانيا. ماذا دخل وماذا اختفى من نصك؟

– ليس عراقياً فحسب بل ( بلداوياً) بحتاً. في أول سنوات وجودي في ألمانيا حاولت أو ربما طرأت على بعض ما كتبت كلمات ومدن وغابات وأنهر وأمطار وأشجار غريبة.. لكن سرعان ما عادت لي روحي العراقية حين لم تحتلَّ شجرة الصنوبر مكان النخلة في قلبي ولم تسحبني كل هذه الطرق المعبدة من طريق ترابية في ذاكرتي.

ورغم أني أعيش قريبا جدا من نهر الراين العظيم وأراه يوميا لكنني ألمح في سماواته دجلة. إلا أن نظرتي الشمولية تغيرت لمعنى الوطن كمن خرج من حضن أمه لحضن زوجة الأب وعقدت صلحاً ثانياً مع الجغرافية حين رفعت مقولتي مكتوبة على راحتي (الوطن هو القلب) وأنا ألوح للقمر ذات ليل.

عقدت هدنةً مع الحزن، لا أمشي معه ولا يمشي معي

  •  ما رأيك بالمشهد الشعري العربي؟ وهل سيترجم شعرنا إلى العالم قريبا؟

-المشهد عظيم ومزدحم كأنه قرية صينينة، هذا الكم الهائل من الشعراء المجيدين أدى الى تصادمات كثيرة وحوادث سير شعرية يومية لكن ولله الحمد لم يمت أحد ليومنا هذا. قضية الترجمة لم تستوقفني يوماً ولا أعتقد أنها مهمة في وقتنا الحالي، ولا أظن أنه ستتم ترجمة شيء إلا في نطاق ضيق جداً للمهتمين بهذا الكائن المسمى (شعر) . العصر الآن عصر التيكتوك (أرجو أن أكون كتبتها صحيحة) بامتياز ، عصر التفاهة الغالبة وإمكانية الوصول للعالم بمحتويات فارغة أو ربما مجوفة أو الترويج لأفكار عجيبة غريبة وسرعة الانتشار المخيفة. فهل ترى يا صديقي الجميل حجم همنا الشعري والترجمة في هذا السديم الآخذ للطابع الثقافي وهو للأسف مجبول على السخافة وليس الثقافة؟

 

  • قد أكون متوهما لكنني منذ فترة لاحظت أنك تخلصت من نبرة الحزن في كتاباتك، كيف حصل ذلك؟

-الحزن يشبه المواد اللاصقة أو لأكن أكثر دقة ما يسمى (ساكوندكليبر) اللاصق السائل الفوري الذي يأتي بنتائج سريعة جدا لمن يتعامل معه لكن بشرط عدم لمسه. هكذا حاولت أن أتعامل معه بلا تماس وعقدت هذه المرة هدنة لا صلح مختصرها ألا نسير معا أبداً. هذا الإدراك المتأخر لماهية الحزن منحني فرصة أجمل للرؤية وفتح أمامي مديات أوضح لتجنبه باعتماد مبدأ: الترك والتخلي والاجتناب وبمعنى أدق (التطنيش).

  • هل يفسر هذا ما نراه حاضرا دائما في نصوصك من سخرية؟

– ربما … لكن السخرية رفيقتي منذ زمن طويل جداً ، تحديدا من عام ١٩٩٣ عندما كنت خارجاً من مهرجان شعري في بغداد رأيت فيه الكثير من المهرجين. السخرية ضربة موجعة للواقع، وانتصار مؤكد على لحظة الحزن ورفض كليّ للمشوِّهات ورياضة للقلب تمنحه طاقة للنبض الهاديء والاستجمام المنعش في لحظة ساخرة، شريطة ألا يكون تجاوزاً أو ( تنمراً) على أحد. (الذي مر ببالك الآن وجهي الآخر فلا تبتسم متهكما) .

  • ما هي القصيدة ؟

– القصيدة فكرة قد لا تعني أحدا، تتوافق مع ذائقة آخرين يشعرون بجماليتها يرون صورها متحركة أمامهم وربما يلمسونها وتلمسهم لذا أصبحت أميل للقصيدة التي لا تلف وتدور حول محورها وتجعل قارئها يلف معها باحثاً عن جواب للسؤال: ماذا يريد أن يقول الشاعر ؟ الفكرة إذا طالت وصارت متاهات ينسيك لاحقها سابقها وتحس بأنك تتعب وأنت تقرأ، وتحول متعة القراءة الى تعب فتتركها. أنا الآن أكثر ميولًا للقصيدة القصيرة التي تترك أثراً بالغاً في القارئ، للقصيدة القصيرة على أن لا تكون وجبة سريعة.

سأضيف من عند كلمة أخيرة! أتمنى أن تكون مطمئناً من رؤية وجهي الثاني. شكراً لأنك صديقي.

قد يعجبك ايضا