ناصر باكرية: الشعر أكثر تعقيدا من محاولة تدجينه في قوالب عمودية

22 أغسطس 2023

حاوره: هاني نديم

التقيت الشاعر الجزائري ناصر باكرية لأول مرة في أبو ظبي أوائل مواسم برنامج أمير الشعراء، ثم التقيته في مهرجان شعري في تونس، وفي كل مرة أراه كان يؤكد لي على وعيه الهائل ودرايته الكبيرة في الشعر العربي، مضيفاً لي سبباً أخر لأحب الجزائر التي وهبتنا من الملهمين والمثقفين والتاريخ ما أثرانا وأثرى لغتنا.

التقيته في دردشة سريعة عن آخر أحوال المشهد الثقافي في الجزائر والوطن العربي.

سألته:

  • المشهد الثقافي الجزائري، هو مشهد خاص جداً، ولكنه كما يبدو لي متفاوتا ومضطربا بين الفنون واللغات والانتماءات، وقد أكون مخطئا.. حدثني عن المشهد الجزائري بالعموم، وعلاقته بالمشهد العربي
– لا أزعم أنني ملم بالمشهد الثقافي الجزائري الذي وصفته في سؤالك بالخاص جدا، وهو في رأيي فعلا مشهد استثنائي وفسيفسائي، فهو ليس مشهدا ثقافيا واحدا بل مشاهد تؤسس للتعدد والاختلاف الذي يتأسس عليه المجتمع الجزائري، برؤاه ومشاربه المتعددة، والتي تمتح من الشرق تارة ومن الغرب تارة أخرى، ومن أصالة جزائرية تحاول ألا تنتمي إلا إلى جزائريتها، فهو مشهد –حقيقة متفاوت ومتعدد، لكن هل يصح وصفه بالمضطرب؟ وإذا وصفناه بالاضطراب هل يعيبه ذلك؟ هذا ما علينا أن نتوقف عنده مليا، فالمتنبي يقول: “على قلق كأن الريح تحتي” وهو القلق الذي يصنع عالم الثقافة ويؤثث فنونها الإبداعية، وهو على الأرجح الحالة الصحية في عالم الثقافة، هذا العالم الذي تتأسس جمالياته على المغايرة والاختلاف.
صحيح أن المسألة الثقافية في الجزائر – بشكل استثنائي- تُطرح ضمن الإشكاليات القديمة المتجددة، إشكالية المعربين والمفرنسين، الحداثة والتقليد، كما أن قضايا الهوية تلقي بظلالها من خلال البعدين العربي والأمازيغي باختلاف تشعباته، وتداخل ما هو ثقافي وهوياتي بما هو سياسي، مما يزيد في كل مرة من تأجيج الصراع الهووي وألغامه، ويجعل الحقل الثقافة أكثر تعقيدا، ولعل أكبر أوجه التمايز بروزا بين المشهد الجزائري والمشهد العربي هو هذه الخاصية الهووية المرتبطة بأسئلة الثقافة في بعديها الأمازيغي والعربي، خلافا للمسألة الطائفية المطروحة في الصراع الثقافي في المشرق العربي، أما بقية الأوجه المتعلقة بالحداثة فكلنا “في الهم شرقُ” لأن سؤال الحداثة في العالم العربي سؤال ممض ومالح وبيننا وبين شوك القتاد كما قالت العرب قديما، لما تمثله البنية السياسية والاجتماعية والدينية من جدران مسلحة أمام كل محاولات التحديث والحداثة، وهو موضوع يطرح أكثر الإشكاليات تعقيدنا في الواقع العربي ولا أظن مثل هذه الدردشة ستتسع له.
الكثير من النصوص النثرية أكثر عمودية من العمود ذاته، إذ أنها تقوم على المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى
  • تكتب العمود ضاربا عرض الحائط بكل موجة الحداثة، هل الشكل دريئة ودرع حماية أم أنه ميل فطري لدى ناصر باكرية.. حدثني عن الأشكال:
– الشعر هو سؤال الوجود والكينونة وهو تماسٌ مع المطلق بتعبير هايدغر، وهو انفلات دائم عن الأشكال ومحاولة مستمرة للقبض على الوجود عبر إعادة تشكيل العالم، وخلق علاقات جديدة بين الذات والأشياء، إنه بتعبير الشاعر الجزائري عمار مرياش إعادة” اكتشاف العاديّ”، والشعر لا يرتبط بالمعنى ولا بالشكل فهو بتعبير الجرجاني مرتبط بالنظم وبتعبير الشكلانيين الروس” ليس ما نقول بل كيف نقول ما نقول”. فالشكل في الشعر يكتسي أهمية بالغة إذا مثل عدولا وانزياحا عن اللغة العادية إلى اللغة غير العادية، أما أنني أكتب العمود فهذا سؤال آخر يعيدنا إلى مفهوم العمود، الذي يرتبط بسبعة أجزاء أوردها النقاد في التراث العربي وعلى رأسهم المرزوقي، وحين نعود إلى تعريف المرزوقي لعمود الشعر نجد أن هناك خلطا لدى المتأخرين بين القصيدة الخليلية والعمودية، فما كتبه أبو نواس والمعري وأبو تمام وغيرهم ممن أبدعوا في القصيدة الخليلية لم يكن أبدا ضمن عمود الشعر”. لذلك قيل في أبي تمام، إذا كان ما يكتبه شعرا فكلام العرب باطل”، فالمتقدمون كانوا على وعي بالاختلاف الجوهري بين العمود والخليلية، فالكثير من النصوص النثرية أكثر عمودية من العمود ذاته، لأن قيامها على المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى تدخلها ضمن حيز العمود، بينما الكثير من القصائد أو النصوص الخليلية الحديثة لا تحمل من عناصر العمود إلا الإيقاعات الخليلية، فهي تقوم على رؤية مختلفة للعالم وتسمي أشياء العالم بطريقة مختلفة، حتى أنها قادرة على جعل الأشياء غير المرئية مرئية، فالشعر أكثر تعقيدا من محاولة تدجينه في قوالب عمودية أو نثرية أيضا، وهو أكثر انفلاتا واستعصاءً عن التعريف والتدجين والقولبة، لذلك لا أظنني اكتب الشعر العمودي ، ولست قادرا أيضا على كتابته، وحتى في النصوص الخليلية أحاول بكل ما أتوت من ضعف وقلة حيلة وهوان عن اللغة أن أفر من كل شبهات التعميد.
لم أعد أملك أحلاماً على الأرجح
  • مسيرتك الأدبية والمهنية كصحافي، أريد أن أعرف البدايات، الأحلام ما تحقق منها وما لم يتحقق
– أنت تعرف حق المعرفة صعوبة أن يتحدث صحفي عن نفسه، وهو الذي اعتاد أن يتحدث عن الآخرين، فمسيرتي لم تبدأ بعد.  أنا مشوش بما يكفي لأصاب بالعيّ في مثل هذا الموضوع، وفي محاولة الإجابة عن سؤال المسيرة، هل بدأت مسيرتي؟ لاأدري إن كانت بدأت بعد، بالنسبة للاعلام هو مجرد مهنة لما يحيل إليه الجذر اللغوي للمهنة من معاني الهوان والإهانةّ، فالصحافة كما تعرف مهنة تحتاج الى مناخ الحرية، وهو المناخ الذي يتعذر العثور اليه في البقعة الممتدة من المحيط الى الخليج، لذلك يتحول مع الوقت الى عبء إضافي ومساحة تخزين مملوءة بالهراء على حساب الشعر والإبداع، ولم أعد على الأرجح أملك أحلاما في هذا المجال، أما الأدب؛ فمسيرتي كما أسلفت لم تبدأ بعد، رغم مناقشتي أطروحة دكتوراه في نقد الشعر، ونشري 3 دواوين شعرية إلا أنني اشعر أنني لم أبدأ بعد، وأنني لم أقل ما أريد قوله.
قد يعجبك ايضا