نجاح حفيظ: فطّوم.. أم الدّراما السّورية.. دمعة الميمة الصّادقة

31 يوليو 2023

 

 

 

 

 

 

 

أمامة أحمد عكوش – نص خبر

بإحساس العاشقة التي لا تَكَلُّ ولا تَمّلُّ في سبيل الوصول إلى حبيبها، وبرأس الأنثى التي تُرَجِّحُ عقلها في آخر المطاف لو تألَّم قلبها .. بملامح وجهٍ حانٍ وعيونٍ سوداءَ واسعة، تنبئك بحنان كلِّ الأمَّهات وأصدقهنّ .. بصوت يمتلك غنَّةً، يمكن تمييزها من بين آلاف الأصوات .. بكلمات هادئة، تحمل في طياتها عجاف السِّنين وخذلان الكثيرين .. خَبُرَت العديد من النَّاس كما نفسها.. وربَّما أكثر! .. بروح عفوية خالية من التّمثيل، تماهت مع أدوارها حتَّى غَدَتْ الشّخصية ذاتها في كلِّ دور .. العاشقة، القوية، الحنونة، السّكّرة، الدّموع الصّادقة، الباحثة عن الابتسامة، الأم، الميمة “فطوم حيص بيص”.

البداية

في الخامس من تشرين الثَّاني/نوفمبر عام 1941 في حي الصَّالحية بدمشق، ولدت نجاح حفيظ، في زمن كان الفنّ فيه عيباً بحقّ الرّجال، فما بالنا بحقّ الإناث. كانت حفيظ معتدّة بنفسها، تملك لساناً لاذعاً؛ لا تتوقّف عن مواجهة النّاس بحقيقتهم، بمن فيهم زملاء المهنة “من المؤسّسين للمرحلة الأولى من تاريخ الدّراما السّورية”. وكغالبية أبناء ذاك الجيل، دخلت نجاح عالم التّمثيل دون دراسته، دخلته عبر الحب، حبّها للفنّ وفقط. انتسبت إلى نقابة الفنّانين في ذات العام الذي تأسّست فيه 1967، كان مدخلها إلى عالم الفنّ عبر بوابة السّينما، حيث شاركت في معظم أفلام الثّنائي دريد لحام ونهاد قلعي، ومن أبرز الأفلام التي شاركت فيها آنذاك (رحلة عذاب، اللص الظّريف، زواج بالإكراه، المخدوعون، النّصابين الخمسة، أمطار صيفية).

صح النّوم

في عام 1972 اختارها المنتج والمخرج خلدون المالح للعب دور عمرها، في حارة “كل مين إيدو الو”، إلى جانب (نهاد قلعي، ودريد لحام، وياسين بقوش، وناجي جبر، وعبد اللطيف فتحي)، في المسلسلة الخالدة “صح النّوم” تأليف قلعي، لتؤدي دوراً أسرَ المشاهد السّوري مذ ذاك التّاريخ وحتّى يومنا هذا، والذي وصلت من خلاله إلى الدّول العربية قاطبة، بدورها الذي حالما يخطر في بال أحد يبتسم لا إرادياً، بدورها الشّهير “فطّوم حيص بيص”، الذي قال النّقاد فيه الكثير، ممّا قالوه: “هذا الدّور، سيبقى خالداً في الدّراما العربية، استحالة أن يُنسى”. لا.. لن يُنْسَى، ولن ينسى ما غنّاه غوار الطّوشة “دريد لحام” لها بحرقة أثناء وجوده في السّجن “فطّوم فطّوم فطّومة، خبيني ببيت المونة”، وها هو التّاريخ يُسجِّل إحدى أجمل قصص الحب من طرف واحد، القصّة التي حفرت في ذاكرة من شاهدوها، وبكلّ تأكيد.. فعلت أكثر مع نجاح حفيظ، كيف لا؟!.. وهي سيدة العمل، ومَنْ وُجِّهَت لها الأغنية والأحاسيس تلك، ومن عُنونت باسمها قصّة العشق ذاك، إذ تمكّنت في شخصيتها الظّريفة اللطيفة القوية، مِنْ أسْرِ قلب غوار الذي تمنّى الزّواج منها، فيما أسر رفيق دربه آنذاك حسني البورظان “نهاد قلعي” قلبها.

ياسينو

لكنّها في النّهاية – وليس عجباً – أحسّت عبر أنوثتها الفذّة، وأدركت من خلال عقلها البارع، أنّ أيّاً منهما لا يصلح كزوج لها، فغوار رجل ملعون فتّان ذو مشاكل عديدة، وحسني رجل عاقل هادئ متّزن، وهي تدرك أنَّ شخصيتها القوية لا تتوافق مع أيٍّ منهما، لذا فقد استأثرت لنفسها بشخصية ضعيفة هشّة، وهو ياسينو “ياسين بقوش”، العامل في الفندق الذي تملكه. تزوّجت من ياسين رغبة منها في زوج لين مطيع، وتزوّجها ظنّاً منه أنّه سيرفع من شأن نفسه، حيث سيغدو زوج المعلّمة، لكنّ هذه المعادلة الموهومة لم تكتمل، فكان أنْ صبَّت فطّومة جام غضبها على ياسينو، وكان لا ينجو من لطماتها، بالمقابل.. أحسّت بالطّعنات أكثر، وأدركت أنّها تصفع نفسها قبل أن تصفعه.

محبّة

وأكّدت حفيظ أكثر من مرّة ما قاله عديد النّقاد: “نجاح حفيظ أمضت حياتها الفنية وهي تتعامل مع الفنّ على أنَّه رسالة سامية، ولم تركض خلف المال”، وبدورها قالت: “إن شخصية فطّوم أكسبتني محبّة النّاس، وهذه المحبّة أعطتني ثقة كبيرة، الثّقة تحمّل الفنّان على استمرار واجب التّقدم والعطاء من خلال ما يناله من محبّة كبرى، وهو ما كان لي المكسب الحقيقي قبل أي شيء، وقبل المال”. بعد “صح النّوم” بقيت نجاح التي لم تمثّل أدوارها يوماً، ولم تظهر على غير ما هي عليه، تقول هنا ما تقوله هناك، بقيت بعيدة عن الشّاشة فترة طويلة، إلى أن عادت نهاية ثمانينات القرن الماضي ومطلع التّسعينات، لتلعب الكثير من الأدوار.

الميمة

غياب حفيظ تلك الفترة، لم يك بسبب ظروفها الحياتية الخاصّة فحسب، بل كان أيضاً بسبب إهمال المخرجين حسبما أكّدت في أكثر من مناسبة، لتعود بعد الغياب عبر أدوار الأم والجدّة “الميمة”، وفي هذه الأدوار أيضاً تحلّت بعفويتها وصدقها، وأضافت إلى ذلك براعة منقطعة النّظير، لم تقدر عليها غيرها من بنات جيلها، خاصّة مع خصوصية أدوار الأم، وقال فيها النّقاد هنا: “قدّمت نجاح حفيظ دور الأم والجدّة بروح أداء لا يشوبه أي تصنّع”.

إذاعة .. شاشة

حفيظ التي شاركت في المسلسلة الإذاعية الشّهيرة “حكم العدالة”؛ وقّعت على 60 مسلسلة تلفزيونية، منها (هجرة القلوب إلى القلوب _ شجرة النّارنج _ نهاية رجل شجاع _ الخوالي _ قانون الغاب _ البحر أيوب _ رقصة الحبارى _ أزهار الشّتاء _ الجذور لا تموت _ الأماني المرّة _ الحصاد _ قلب أم _ الأم الطّيبة _  أسياد المال _ الخط الأحمر _ الخبز الحرام _ بنات العيلة _ أهل الغرام)، ومَنْ منّا يستطيع نسيان تعابيرها وصوتها حين غنّت في مسلسلة “بسمة حزن” لرفيق السّبيعي عام 1992 “بالي معاك .. بالي بالي بالي”، عن رواية “دمشق يا بسمة الحزن” لـ ألفت الإدلبي، سيناريو رفيق الصّبان، وإخراج لطفي لطفي، ومَنْ لا يتذكّر دموع أم ماجد في المحكوم عام 1996 لرياض سفلو ومحمد فردوس الأتاسي، وصولاً إلى آخر مشاركاتها الفنية، عبر مسلسلة “فتت لعبت” عام 2013، و”لقطة بغلطة” عام 2016؛ كما أنّ جعبة “أصدق الأمّهات” كما وصفها البعض، حملت 36 فيلماً سينمائياً، بدأتها عام 1966 عبر “لعبة الشّيطان”، لتعقبه بعديد الأفلام منها (عندما تغيب الزّوجات _ خياط للسّيدات _ الثّعلب _ امرأة تسكن وحدها _ غراميات خاصّة _ أموت مرتين وأحبّك _ ملح وسكر _ زواج على الطّريقة المحلية _ الجوهرة). وعن رأيها إلى ما آلت إليه السّينما السّورية، قالت حفيظ قبل سنوات على رحيلها: “كانت السّينما سابقاً مغمورة بالحب وبذل الجهد والإخلاص في العمل، لكنّ السّينما في الوقت الحالي تغير وضعها، ومن يلام هم صنّاع السّينما، يجب أن تشارك سوريا بأكثر من 10 أفلام كلّ سنة لتأخذ مكانتها في السّينما العربية”.

فقدان الوعي .. سكاكر

أحبّ الأعمال على قلب أصدق الأمّهات – بعد ملحمة صح النّوم – هو مسلسلة “البقعة السّوداء” عام 2010، لخلدون قتلان ورضوان محاميد، “هو أقرب الأعمال إليَّ” هكذا قالت في أواخر لقاءاتها، فقد كانت أمّاً لشابّين، أحدهما زُفَّ شهيداً في ليلة عرسه، والثّاني يريد السّفر من أجل بناء حياته، تأثّرت لدرجة أنّها حين زفّوا إليها ابنها شهيداً “في اللوكيشن”، فقدت الوعي لمدة ربع ساعة بسبب الحزن الشّديد الذي ألَمَّ بروحها، وبعد استيقاظها وجدت الدُّموع تُغطي وجناتِ كادر العمل.

“الحنونة .. السكّرة”.. كما يُطلق عليها عديد الممثّلين السّوريين، كشفت في أكثر من مقابلة لها، أنّها تقوم بتوزيع السكاكر بشكل متواصل على كوادر الأعمال التي تشارك فيها، “أحاول تسليتهم حتّى ينسوا التّدخين ويخفّفوا من حدّته”، كما أشارت في بعض تصريحاتها أنّها لا تحبّذ أن يسود في أجواء مواقع التّصوير الحزن واليأس، لذا تبادر بفعل ذلك مع “الكاست”، الأمر الذي يُدخل في قلوبهم الفرح، “أحسّ أنّي لا أفرحهم فقط، بل وأعود بهم إلى ذكريات طفولتهم”.

خذلان

“كانت نجاح حفيظ إذا طلب منها أن تقدّم دوراً، لا تدرسه أو تتدرّب عليه، بل تعيشه، تغوص فيه، تتغلغل في أعماقه، تتقمّصه حتّى تغدو تلك السّيدة التي في داخل الشّخصية، لذلك فهي لا تُمثّله، بل تعرض روحها من خلال الفنّ” حسب عديد النّقاد. ورغم أنّ هذا رأي النّقاد بتجربة حفيظ النّادرة، ورغم حبّ الجمهور لها أيّما حبّ، إلّا أنّ الخذلان ممّن يجب أن يكونوا بعيدين كلّ البعد عنه – خاصّة معها ومع أبناء جيلها- حصل، بل وأكثر! فها هي نجاح حفيظ قبل عامين على وفاتها تُصرّح: “أنا لا أمتلك شيئاً أعطيه إلّا فنّي، وليس هناك أي نوع من التّواصل معي من قبل النّقابة أو المنتجين والمخرجين، الكثير من الفنّانين الحقيقيين لا نراهم على الشّاشة، والكثير منهم لا نسمع بسيرتهم الفنية إلّا بعد وفاتهم – تكريم لمدّة نصف ساعة على الشّاشات – وينتهي الأمر”.

دموع .. أبناء

الإنسانة التي عاشت ردحاً طويلاً من الإهمال، رغم أنّها أفضل من جسّد دور الأم في سورية، ولم تستعر دمعاً صناعياً _ ولا مرّة في حياتها المهنية _ إذ كان سهل عليها أن تبكي، لأنّها عايشت ظلم الحياة وقسوتها. الإنسانة التي اختبرت خلال عمرها مشاعر الأمومة وأحاسيسها عشرات المرّات عبر الكاميرا، لكنّها في الحقيقة لم تنعم بها، قالت: “أقوم بدور الأمّ، وأنا لم أُرْزَق بطفل خلال زواجي من شريك حياتي محمد خير الرّفاعي، أعتبر أيّ طفل ابني، أعيش دور الأمّ في أعمالي، وأشعر في كلّ عمل، أنّي أعيش مع عائلتي بحقّ، كلّ من مثّلت أنّي أمّه/ها، أحسّهم أبنائي بكلّ معنى الكلمة”.

وداعاً فطّومة

ها هي “الأم”، في السّادس من أيار/مايو عام 2017، تترجّل عن صهوات أمومتها إثر نوبة قلبية، من مستشفى ابن النّفيس في دمشق عن 76 سنة، ووريت الثّرى في مقبرة زين العابدين في الصّالحية. رحلت من لا تمتلك شيئاً لتعطيه إلّا فنّها بعد رحلة عطاء استمرّت نحو الـ 50 عاماً، أغلقت مديرة فندق صح النّوم الباب على جيل عملاق في تاريخ الفنّ السّوري، غادرت فطّومة صاحبة واحد من أشهر “الكركترات النّسائية” في تاريخ الدّراما السّورية.

“نحن متأسفين”

لتأتي جنازة صانعة الفرح، وتشّكل صدمة كبيرة للجميع، حيث لم يحضرها إلّا سبعة أشخاص، بينهم خمسة فنّانين، ما أغضب جمهورها واعتبروه فضيحة بحقّ جميع الفنّانين وبحقّ نقابتهم، بدوره نعى المخرج والممثّل عارف الطّويل “الأم نجاح” عبر صفحاته في وسائل التّواصل الاجتماعي بالقول: “في جنازة ومشهد غير مهيب، هما عربيتان و7 أشخاص، تم إقامة جنازة عمود من عمدان التّلفزيون في سوريا، الرّاحلة نجاح حفيظ .. نحن متأسفين”.

 

 

قد يعجبك ايضا