نحن الشرقيين – حسان الحديثي

19 نوفمبر 2023

د.حسان الحديثي – كاتب وناقد من العراق

نحن الشرقيين أناسٌ متمسكون بما جرت عليه العادة، بمعنى أننا كلاسيكيون في طباعنا، تقليديون في ميولنا لا نحب تغيير المألوف ولا تجربة الجديد، وهذا لا ينطبق على الاطلاع في القراءة والسماع، بل وحتى في الملبس والمأكل فنحن متأخرون في مواكبة الآداب والفنون العالمية، وما تطرحه الموضة ومصممو الأزياء، وما زلنا متمسكين بتقليديتنا في الطعام منذ ان هشَمَ عمرو الثريد لقومه.
اتذكر جيداً في الثمانينات كيف كان الشباب مغرمين بعطور كلاسيكية مثل ريڤدور وأرامس، ومتمسكين بألوان مثل الكحلي والاسود للبنطلون والابيض للقميص، بل كنا نجد انه من المعيب ان نلبس الاحمر والأصفر والأخضر…
كما كنا لا نجد في محمود درويش ما نجده في احمد شوقي من أثر ووقع في النفس ، ولا يُلقي علينا صدى محمود البريكان ما تلقيه فينا قصائد الجواهري من تفاعل وتأثر، قليلون جداً من انتبه الى السياب ونزار وسعدي يوسف في بواكيرهم او بعد ظهورهم بقليل.
وكذا تأثُرُنا بمحمد عبدالوهاب والسنباطي، وصوت ام كلثوم وفريد، حتى ان الجيل الذي سبقنا لا يميل كثيرا لفيروز، اما ماجدة الرومي فمن كان يسمعُها عليه ان يسمعها لوحده…
لاجل ما تقدم حفظنا قصائد باسمها وملنا لالحان بعينها، ففاتنا كثير من الجمال والادب والموسيقى ليس لسبب سوى كلاسيكيتنا الهامدة وتقليديتنا الجامدة.
اذكر جيدا حين دعاني احد اصدقائي في منطقة البراضعية بالبصرة على الغداء في بداية تسعينات القرن الفائت وأخذني الى سوق السمك والبحريات ليشتري كمية جيدة من الروبيان، كنت احدث نفسي ساعتها: اذا كان صاحبي جادّاً في اطعامه لي ما اشتراه للتو من ديدان البحر، ولا استطيع وصف شعوري وانا اقدم يدي وأؤخر الثانية على طبق “مطبگ الروبيان” حين وُضِع على المائدة.
عشت ذات الشعور لاحقاً امام طبق الملوخية في بيت صديق ثان في دمشق عام 1998، كانت زوجته تسكب لي في طبقي منها وانا أرزح تحت ثقل الحياء والحرج لاني لم استطع النظر اليها فكيف سأتذوقها.
مضى العمر وسافرنا خارج البلاد وتنقلنا في ارض الله وخرجنا قسراً من دائرة التعويد الى فضاء التجديد فاحببنا موسيقى بلا الـ”ربع تون” الشرقي الذي يُميل قلوبَنا عندما تكتمل به نغمة “الصَبا”، ويُرعد فرائصَنا اذا ترنم به مقامُ “السيگاه”.
ثم تعرفنا على آداب امم اخرى وقرأنا شعراً مترجماً كانا حريين بالاطلاع والقراءة، وانتبهنا الى نصوص اصبحت مناهل جديدة للغة جديدة لم نألفها لانها تبعٌ لبيئة اخرى لم نعرفها من قبل.
الجميل ان الشاعر القطامي -وقد سبقنا بعشرات القرون- هو القائل:
قُدَيدمِة التَّجرِيبِ والحِلم أنني
أرى غَفَلاتِ العَيش قَبلَ التَّجارِبِ
وقُدَيدمِة: تصغير قدّام اي انه متقدم في التجريب.
لقد كنا نعيش داخل هالة عظيمة من غفلات العيش، وما زلنا، ففاتنا جُلُّ الجمال، وغالب النشوة، وكثير من متع الحياة بحقيقتها وواقعها، بخيالها وحقيقتها، لتمسكنا بحالنا المعهود، كنا ننظر الى الجديد بعين الريبة، ونتهامس حوله بفكرة العيب، وننسحب من امامه كمن يعتريه الذنب منه او يخاف التصاق النقيصة بأذياله.
لأجل ما تقدم صرتُ من دعاة التجديد في كل شي ما لم يوقعنا في المحظور، ومن مناصري التحديث في اي امر طالما لا ننزلق في الإسفاف والتميع والفراغ.
فيا اصدقائي الجميلين من البنات والبنين؛ لا تدعوا فرصة لجديد دون ارتكاب الوقوع فيها وتجربتها، فكثير من الجمال ما تناثر على جانبي الطريق، وكثير من الماء والخضرة خارج حدود الحمى.
.
قد يعجبك ايضا