نغني كما يغنّي الرجال الحزانى

9 يوليو 2023

رانيا يوسف – كاتبة سورية

عمّا قريب سيصل الليل يخلع على عتبة الدّار أوجاعه، بهدوء وخفّة يتسلل، يلكز بطرف عصاه خاصرة الرجل الحزين، يغمزه بعينيه، ويقول مبتسما: تعال نغنّي. سيقبض الرجل الحزين بيديه على خجله، وكان أن صار الصّمت طوفانا، وكان أن صار الصوت نبيذا وشرابا.

على الوجه الخارجي لجدران الدار، ثمّة شيء مبهم ومجهول يشاكس حشرة حزينة وهزيلة، يسقطها كلّما عاودت محاولات الصعود.. إذ كان أن غنّى الرجل الحزين.

في الشرق ..شرقنا يجيدون تقطير الشراب الحلو البدائي، ويقطّرون الحواسّ صوتا، والصوت مسافر مجنون وحرّ، لا سيطرة سيطرة لنا على اتجاهاته. كان الصوت موسيقانا البكر، محاولتنا الأولى لكسر وحشة العالم ورهبة الكون الواسع، لمّا كنّا مجرّد ضيوف خجولين وفقراء في حضرة كون غنيّ وقوىّ. وطفقنا نرتب الأصوات.. كنداءات ربّما أو اعتذارات وخلقنا الأغنيات.

وهنا؛ في هذي البلاد التي لا أعرف كيف رضيت بالتقزم، حيث كانت ألوان الغناء تفور كما يفور التين والجوز والزبيب في العنابر، أو كما يتدلى رمّانٌ خريفيٌ شهيٌ معلق من أعناقه الطويلة في سقف غرفة طينية.

هنا غنى الناس للناس، للبحر والجبال، للأنهار والبوادي، لكن قبل كل شيء، غنوا للحياة والموت والآلهة وشكروهم جميعا. قال الشاعر والكاتب والملحن المخلص سعدو الذيب الذي أنهك روحه وجسده في محاولة مجابهة حرائق التغيير، وأنقذ ما أمكنه إنقاذه من أغانينا العتيقة المتواترة شفاها على لسان كبار السن، والذين ماتت بموتهم أغان قديمة. ما جعل هذا الانسان النبيل يحمل معه حتى آخر العمر غصة وربما إحساسا بالندم والتقصير. قال سعدو الذيب: (من لا أغنية له لا هوية له). ونحن لدينا العتابا والميجانا والدلعونا والسويحلي والشروقي والموشحات والمواويل.. وتطول القائمة كثيرا عند الخاصة من أهل هذا الفن الذي يكاد يكون علما قائما بحد ذاته.

تسكن هذه الأغاني في مكان سحيق من ذواتنا، كلما باغتتنا أغنية، يتفجر في قلوبنا شوق عصي لأمهاتنا، يحضننا صغارا، يهدهدن قلقنا بكلام حلو لانفهمه، لكننا نعيه.

يغني مطربو هذه الأيام بأقدامهم، يدوسون حواسنا، ويفتكون بتراثنا وهويتنا وانتمائنا، غناء رثا بغيضا، ويقرضون كفأرة مأجورة جسد أغنياتنا الأصيلة بحجة تحديث التراث. ولأن نشوة الأرواح خالدة لا تموت، ومهما تغوّل الفن الرخيص، ونخر مساحات من ذاكرتنا، فإنه سيزول وينتهي كما يموت الضعفاء لعجزهم عن مواجهة الأقوياء، آلاف الأغاني تولد وتموت دون أن يسمع زعيقها أحد.

يا الله دع الرجال الحزانى يغنون كي نعود إليك في رحلة عكسية يكون فيها الحب منتهانا ومبتغانا. إن الرجال الحزانى لا يغنون إنهم يلدون أصواتهم كي لا تموت أجنة في قلوبهم فتتسمم.

قد يعجبك ايضا