في مديح الشخصيات المساندة

 

سماح ميّا – كاتبة وصحافية من سوريا

البطل في الدراما، شخصية يحلم أي ممثل بتجسيدها. الهدف الأسمى الذي يستحق مشقة الطريق الوعر. ولك أن تتخيّل كم عليك أن تنحت في الصخر لتستحق الوصول لشرف أن تكون بطلاً. لكن، للوصول أثمانٌ باهظة، قد لا تقل أحياناً عن ثمن التجاهل والتغييب والتهميش. فإن كان للقمة لذّتها الخاصة، إلا أنّها تخلّف إحساساً هائلاً بالراحة والأمان. والإبداع التّمثيليّ يتطّلب شعوراً دائماً بالقلق والخوف والحسد والغيرة، وسعياً مستمراً للاستحقاق وإثبات الذات. وهذا بالضبط ما يحققه لك الدور المساند..أن تكون بطلاً في مكانك.

كثيرٌ من الممثلين وصلوا إلى القمة، وفي غمرة استمتاعهم بالوصول إلى هناك، سقطوا. تحوّلوا إلى مجرد أسماء تظهر في بداية تترات المسلسلات التجاريّة. فقدوا الشّغف والرغبة، وتملّكهم الغرور، أو ربما أصابهم الملل. فأي شيء، مهما كان ثميناً وبعيداً، عندما يُصبح بمتناول يدك، يفقد الكثير من متعته. حتى الضوء، قد تعتاد عليه، بعد أن تلمسه، فتبقى مكانك، وتصير عاجزاً عن النّمو والتّطوّر.

غِواية الشُّهرة

قبل سنوات، ظهر أحد “النّجوم” السّوريّين في مقابلة على إحدى الفضائيّات العربيّة. تحدّث يومها، بكثيرٍ من الغرور، عن دورٍ ندِم على تجسيده في أحد أهم أعمال الدراما السوريّة.
في غمرة نشوته بالشهرة التي وصل إليها اليوم، وإحساسه الآمن بالنجومية، تناسى ذلك “النجم” أنه لولا تلك الأدوار المساندة، وما حقّقته له من رصيد وتنوّع، لما كان اليوم جالساً في هذا المكان، ولا كان يحظى بفرصة التحدّث كنجم عن أدوارٍ ندم على تجسيدها. فالنجومية الحقيقية تراكمية، والحفاظ عليها يتطلب تواضعاً وشغفاً دائمين. ولا يمكن لممثل يحترم صنعة التمثيل أن يتنكّر لأي تجربة صنعت كيانه الحالي، خبرته، شهرته، صقلت موهبته، طوّرت أدواته وإمكانياته، ولو كانت بدور ثانوي أو مساند. لكن، والحق يُقال، يمكن التكهّن بأسباب ذلك الممثل إذا ما اطلعنا على شكل الأعمال التي غرق في دوامتها منذ سنوات. فأن تعتاد على أن تكون “جغلاً”، بطلاً أوحداً في سيناريو هزيل ونمطيّ ومكرّر، شخصيةً مسترجلة، بصوت عريض ولسان سليط ومشية متباهيّة ولازمات كلاميّة مبتذلة، طرفاً في ثنائية سوريّة لبنانيّة تقيأتها الشّاشات مراراً وملّها الجمهور، بالتأكيد، لن يعجبك أن تكون ممثلاً في عملٍ حقيقيٍّ لم يصنع على مقاسك وحدك.

كثيرٌ من الممثلين وصلوا إلى القمة، وفي غمرة استمتاعهم بالوصول، سقطوا. تحوّلوا إلى مجرد أسماء تظهر في التترات. فقدوا الشّغف والرغبة، وتملّكهم الغرور

هكذا، “كبرت الخسّة” في رؤوس بعض “النجوم” العرب، فباتوا يعتقدون أن أسماءهم أكبر من العمل نفسه، وأن مكانهم لا يُنازعهم عليهم أحد. فصارت تلك النجوميّة الزائفة محاولة لإشباع الميول النّرجسيّة والنّزعة الاستعراضيّة بعدما تحوّلوا إلى أطفال مدلّلين لدى شركات الإنتاج الكبرى. فلكل شركة نجومٌ يُستقطب كتّاب السيناريو لتخديم مشاريعهم، فيخطفون الضوء ونصف ميزانية العمل تحت حجة التسويق. وهذه نعمة يُحرم منها الممثلون المساندون، والموهوبون الحقيقيون، الذين يجتهدون كثيراً ليحجزوا مكاناً على الشاشة، تحت الضوء، وفي ذاكرة الجمهور.

النضج على نار هادئة

لن تصير ممثلاً ناضجاً حتى تصعد السلم درجةً درجة. هذا ما يحقّقه لك الدور المساند. من هنا، أستغرب تباهي بعض النجوم بشهرتهم السريعة. فالتجريب، والتنوّع، البحث عن المضمون، الاجتهاد على الشّخصيّة، محاولة الإقناع ولفت النّظر، كسر قشرة المحدوديّة والتّهميش، ومعرفتك أن أداءك فقط من سيرفعك في عمل لا تتضافر جميع عناصره لخدمة ظهورك، هي مزايا يحقّقها لك الدور الثّانويّ والمُساند. أما البطولة المطلقة في أعمال تفتقد لأبسط معايير النجاح، والجوع الدائم لمجرد الظهور كنجم أول، ولو كان هذا الظهور باهتاً، وبشخصيات مسطّحة وأحاديّة ونمطيّة، فبالتأكيد سيسقطك مهما كان اسمك متقدّماً في شارة العمل.
فخيرة الممثلين، الذين تشّربوا فنّ التمثيل، واختمرت تجاربهم، قدّموا أدواراً ثانويّة علقت في ذاكرة الجمهور أكثر من الشخصيات الرئيسيّة. فإذا ما تحدّثنا عن الإبداع التمثيلي في الأدوار المساندة، أول ما يقفز إلى ذاكرتنا ممثلون مدهشون، كمحمد حداقي وأحمد الأحمد.

وفي التغريبة الفلسطينيّة، قدّم رامي حنا الأداء الأفضل له في مسيرةٍ لم تتجاوز تخوم الأدوار المساندة. ورغم ازدحام العمل بالنجوم، والأداء العالي الذي قدّمه جميع الممثلين، نجح رامي في انتزاع الضوء بشخصية “مسعود” التي فجرّت طاقاته التمثيلية، وقدّمت رامي بشكل جديد ومختلف. فإن كانت الدراما السوريّة قد ربحت رامي لاحقاً، كمخرج متفرّد، لكننا خسرناه كممثل فذّ لم ينل ما يستحقه من الشهرة والتقدير.

وفي المسلسل السوري “عصي الدمع”، للكاتبة دلع الرحبي والمخرج الراحل حاتم علي، يظهر الراحل خالد تاجا كضيف شرف في العمل، في مشهدٍ واحد لا تتجاوز مدته بضعة ثوانٍ. المسلسل الذي ينتقد الفساد القضائيّ وقانون الأحوال الشّخصيّة، يظهر خالد تاجا في أحد مشاهده متجوّلاً في بهو قصر العدلي، فيسأل المارّة: “وين نحنا؟”، ليجيبوه:” بقصر العدل”، فيدخل في نوبة ضحك، ويقول متهكماً: “قصر شو؟!!!”

مشهدٌ واحد يختصر مقولة العمل، قدّمه الكبير خالد تاجا باحترافيّة وإتقان، دون أن يجد في مساحة الدور المتواضعة ما ينال من مكانته وقيمته كممثل لن يتكرّر.

من ينسى خالد تاجا؟ في أحد الأعمال يظهر في مشهدٍ واحدٍ في بهو قصر العدلي، فيسأل المارّة: “وين نحنا؟”، ليجيبوه:” بقصر العدل”، فيدخل في نوبة ضحك، ويقول متهكماً: “قصر شو؟!!”

وفي مصر، لازم الدور المساند الراحل حسن حسني لسنوات، لكنه نجح بحضوره الخفيف وحسّه العالي في كسب رهان اللعب على الشّخصيّة. والغريب أن الكثير من الشّخصيّات التي أداها حسن حسني على الشّاشة الصغيرة نجحت جماهيريّاً رغم فشل الأعمال التي احتوتها. فكثيراً ما نجح لوحده، كعازف منفرد. وهكذا أبدع ماجد الكدواني والراحل خالد الصالح في الأدوار المساندة، فنجحوا في سرقة الضوء من أبطال الأعمال التي شاركوا بها بذكاء وبراعة قلّ نظيرها.

دراما رمضان تُنصف الأدوار المساندة

هذا الموسم، أعادت دراما رمضان الاعتبار للبطولات الجماعيّة، وأرجعت إلى السّاحة الكثير من الوجوه التي افتقدناها لسنوات بسبب الاستسهال والشّلليّة والتكريس المتعمّد لأسماء بعينها. ففي الأعمال التي نالت النصيب الأكبر من المشاهدة والإعجاب، كان بريق الأدوار المساندة لا يقل بشكل من الأشكال عن بريق الشّخصية الرئيسيّة.

في الدراما السوريّة، كان لافتاً مسلسل “الزند”، والشُغل الهائل على الشخصيات من لحظة بنائها على الورق حتى اختيار الممثلين. وبغض النّظر عن مساحة الظهورعلى الشّاشة، اقتسم البطولة جميع الممثلين، من الشّخصيات الهامشيّة حتى الرئيسيّة، مروراً بالشّخصيات الثّانويّة، التي ظهرت بأفضل صورة. وربما كان هذا سبب إصرار صنّاع العمل على ظهور أكبر عدد من الممثلين على بوستر العمل. ويُحسب لصنّاع “الزند” أيضاً، إعادة بعض الأسماء التي اشتاقت لهم الشاشة الصغيرة، كنهاد العاصي وفؤاد الوكيل، في خطوة أعادت الاعتبار لاختبارات “الكاستينغ” على حساب الوساطات والعلاقات الشّخصيّة.

لا ضير في أن تكون قبيحاً، سميناً، قصيراً. لديك مروحة واسعة من الصفات التي تجعلك أكثر اتصالاً بالواقع والحياة من البطل

وفي مصر، قدّم مسلسل “تحت الوصاية” شخصياتٍ مساندة لا تقل جاذبيّة عن الشّخصيّة الرئيسيّة. عملٌ بديع، أشبه ما يكون بأوركسترا تمثيليّة، تتحرّك على إيقاع واحد. ولعلّ شخصية “عم ربيع”، الأبويّة الطابع، التي أداها رشدي الشامي، واحدة من أجمل الشخصيات المساندة هذا الموسم.
في الدراما المشتركة، قدّم محمد عبد العزيز، في مسلسله “النار بالنار”، نموذجاً فريداً في فنّ إدارة الممثل. هذا العمل مباراة في فنّ الأداء بين جميع ممثليه. وأجمل ما فيه، إعادة اكتشاف طارق تميم، وكأننا نشاهد هذا الممثل الرائع لأول مرة.

في المجمل، لا تتطلب الأدوار المساندة مواصفات شكلانيّة خاصة. كممثل مساند، لا ضير في أن تكون قبيحاً، سميناً، قصيراً. لديك مروحة واسعة من الصفات التي تجعلك أكثر اتصالاً بالواقع والحياة من البطل. لست مضطراً لزيارة النادي الرياضي، ولا لمحاولة الظهور بشكلٍ أقرب للمثاليّة. كل ما عليك أن تركّز عليه هو الأداء، الشخصية، ومحاولة حجز مكانٍ لك في ذاكرة المتفرّج، بالموهبة وحدها، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الموهبة.

قد يعجبك ايضا