أحمد الفراتي – سوريا
منذ عدّة سنوات يحيط بي في أوربّا لونان؛ فضّيّ الأبنية بكلّ تدرّجاته، وأخضر الحدائق. لذلك فهمت هدوء الأوربّيين، ولطفهم في التعامل، لا يقطع هذين اللونين غالباً إلّا الأسقف القرميديّة في الخارج، ولوحات الجدران داخل البيوت.
راود العلماء كثيراً ذلك السؤال: ما هو اللون الأوّل الذي ظهر على الأرض في بداياتها؟ الجواب حسب علم الحفريّات، من أقدم الحفريات لدينا هي ليخضور سيان البكتريا، هل في الأصل كان الأخضر على الأرض؟ العلماء إلى اليوم لا يعلمون من أين جاء اللون الأخضر وكيف نشأ في كائنات سيان البكتريا الخضراء والزرقاء التي تُعتبر من أقدم الكائنات.
أتواصل مع طالبتين جامعيّتين سوريّتين، نصل في أحاديثنا إلى أقصى المناطق سرّيّةً في العقل، أردتُ أن أعبّر عن سعادتي بصداقتهما، فلم أجد إلّا اللون الأخضر لأصف جمال عقليهما المرعب، أنا الذي أجيد القليل من موسيقى الشِّعر، عقل كلٍّ منهما يقول لنفسه وللجميع: مثل الصنوبر، لا يهمّني فصلُ، ورد الربيع لكم، وأخضري أصْلُ.
لكنّ السؤال يطرح نفسه علينا جميعاً؛ لماذا يبعث الأخضر في أنفسنا راحةً؟ كذلك الأزرق. لماذا تتّجه عيون الأطفال حديثي الولادة-حسب إحدى الدراسات- إلى الأشياء الحمراء أوّلاً؟ لماذا مضادّات الاكتئاب صفراء؟ لماذا الأحمر يحسّن الذاكرة قصيرة الأمد؟
حسب الأبحاث فإنّ أوّل ما ندركه في الأشياء هو لونها، قبل هيئتها وحركتها أو سكونها، وحسب الأبحاث أيضاً، للألوان صوتها الخاص، في تجربة تسير سيّارتان إحداهما بيضاء، والأخرى حمراء بنفس السرعة، ولهما نفس التصميم، السامع الخاضع للتجربة شعر بصوت الحمراء أعلى. يربط البعض الآخر الألوان بأشياء خاصّة به، يقول أحد العازفين: يذكّرني اللون الأصفر بآلة الترومبيت، الأخضر يذكّرني بالكمان، الأزرق الفاتح يذكّرني بالفلوت، هذا يقودنا للطفولة حيث تحيط بنا الألوان من كلّ مكان، لذلك يربط الطفل الألوان بأشياء خاصّة به وتجارب وأحداث، كلّها تكبر معه. فهل الألوان توجّهنا؟
ما هو اللون الأوّل الذي ظهر على الأرض في بداياتها؟ الجواب حسب علم الحفريّات، من أقدم الحفريات لدينا هي ليخضور سيان البكتريا
باحثون من انكلترا أحصوا نسبة الفائزين في لعبة المصارعة الرومانية في الألعاب الأولمبية الحديثة، فوجدوا أنّ 66 بالمئة من المباريات فاز بها مصارعون يرتدون الأحمر! فهل الأحمر لون النصر؟ حتّى أنّ حكّام هذه المباريات أجابوا بأنّهم يشعرون أنّ الأحمر سيفوز. إذاً للألوان تأثير علينا وعلى توجّهاتنا، لذلك ترتبط العلاجات النفسية الحديثة بالألوان، ماذا عن بيئاتنا العربية؟
بيئاتنا العربية المقطوعة غالباً من الصحارى تنتشر فيها التدرّجات الكالحة للبنّي الأرضي، حسناً فعلنا بالبيوت من الداخل حين حوّلناها لقصور في المدن العربية العتيقة. ماذا عن ديواننا الأبدي؟ الشعر العربي؟
لم يحتفل الشعر العربي القديم بالألوان، ربّما لقلّة تنوّعها حولنا، وإن تشدّقنا بالماء والخضرة والوجه الحسن. حتّى قصيدة النثر التي توازي ما يجري عالمياً بشأنها حول تراسل الحواس حديثاً في الشعر العالمي، لم تخلد قصيدة نثر عربية واحدة عن الألوان، رغم تكدّس الدراسات النقدية حول اللون في الشعر والنثر، اللهم بعض الجمل الشعرية الفقيرة في بعض القصائد، فماذا عن الفنون البصرية؟
هناك طوفان هائل لوني طبيعي وصناعي عبر الحاسوب وأدواته، لكنّك تشعر أنّ الألوان في أعمالنا البصرية بجميع أنواعها لا تنتمي لبيئاتنا، كأنّما هناك طمس للبيئة الحقيقية حولنا عبر الألوان، هل للخيال علاقة بذلك؟ بما أنّ الواقع غير جميل؟ الجواب طويل ويتعدّد عدد المدارس الفنية. وهنا يطفو سؤال علميّ عمليّ آخر، لماذا تدرك النساء ألواناً وفروقات لونية أكثر من الرجال؟ حسب الدراسات فإنّ الباحة المخّية المرتبطة بالإدراك اللوني عند النساء تختلف عن الرجال، إضافة لارتباط النساء منذ المراهقة بالحيرة اللونية في اللباس والزينة. ماذا عن ثقافة الاحتفال بالألوان عندنا كعرب وعند غيرنا؟
للأسف يحتفل الناس بالألوان مهما كبروا في العمر إلّا عندنا العرب غالباً، حيث لا ترى إلّا اللون الرمادي، وتدرّجاته على مستوى اللباس على الأقل، دعك من باقي نواحي الحياة، ماذا عن الحب أخيراً؟ الحب، والألوان؟ الجميع يعرف الأحمر. الدراسات الحديثة تؤكّد أهمّية اللون الأحمر كما تفعل التجارب الشعبية مع اللون الأحمر ووصفاتها عنه.
