سمير درويش: مثل الفراعنة.. كتابتي هي نقوشي التي سأتركها خلفي

14 مايو 2023

حاوره: هاني نديم

نحن اليوم في ضيافة الشاعر المصري سمير درويش، كما كنا أمس وكما سنكون في الغد، فلطالما استضافنا في نصوصه ومنجزه ومجلة ميريت المكافحة وسط كل هذا الضجيج. التقيناه وفي حديث ذي شجون عن حال الثقافة والإصدارات الثقافية، وبكل رحابة صدر ومحبة دردشنا.. سألته:

  • أبدأ من ميريت، هذا المشروع المغامر، كيف بدأ الأمر وأين أصبح، لماذا تستمر في مجلة ثقافية بهذه الرصانة وسط هذا الطوفان الكتابي؟

– الفكرة بدأت في منتصف عام 2018 بعد أن قدمت استقالة -من سطر واحد- من رئاسة تحرير مجلة “الثقافة الجديدة”، الشهرية الثقافية التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية. اتخذت قرار الاستقالة في عشر ثوانٍ بعد أن قضيت في رئاسة تحريرها أربعة أعوام، ثم سافرت إلى عائلتي في نيويورك، وأخذت في تأمل التجربة بعيدًا عن الضغط اليومي.

مصر تصدر مجلات (ثقافية) -بين قوسين- كثيرة لا يسمع عنها أحد، شهرية وفصلية، وتوزع نسخًا قليلة جدًّا، لأسباب متعددة، منها أنها واقعة تحت سطوة بيروقراطية عتيقة، وأنها غير منتظمة الصدور، وأن المسؤولين عن إدارتها ليسوا احترافيين، وأن هذه المجلات نفسها ليس لها بطاقات توصيف، بمعنى أننا نصدر مجلة (وخلاص) دون أن ندرك ما هي رسالتها، ومن هو جمهورها المستهدف، والنتيجة لوحة عشوائية مجانية!

كونها حكومية فهذا يجعل سقف الحرية فيها واطئًا، فأنت -كمسؤول- تستبعد المادة الأدبية والثقافية التي تتناول التابوهات الثلاثة المعروفة حتى دون أن يطلب منك أحد ذلك، حتى لا تجلب مشكلات لنفسك، خاصة أن المتربصين كثر لأسباب مختلفة.

كما أنها تطبع كميات قليلة جدًّا، وبالتالي يصعب على كُتابها الحصول على نسخ منها، فيطلبون من القائم عليها أن يرسل لهم صورًا أو ملفات pdf!

لذلك فكرت وقتها أن أصدر مجلة سقف حريتها عالٍ، أو بدون سقف أصلًا، وأن تكون إلكترونية لكي أوفر سعر الطباعة باهظ التكلفة، وأن أوفر للكتاب والقراء الملف النهائي مجَّانًا، وأخيرًا لكي أعطي مثلًا لقدرة مصر على صناعة مجلة جيدة، تنافس المجلات الكبرى، خاصة أن المجلات (التي كانت كبرى) كلها توقفت لأسباب اقتصادية على ما يبدو.

أصدرت حتى الآن (53) عددًا بانتظام حديدي، وجهزت عددين قادمين.. فأنا مؤمن بالتجربة وأرى أنني أفعل شيئًا يستحق العناء، غير أنني من النوع الذي لا يتراجع بسهولة ولا ينهزم، وهذا هو سر الاستمرار.

 

2- هل تغيرت بنيوية الشعر خلال العقدين الأخرين ومع وسائل التواصل أخيرًا؟ كيف تنظر له وهل تأثرت كتابتك بتلك المتغيرات؟

الشعر يتغير منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، قبل وجود وسائط التواصل، فالشعراء ذهبوا إلى “قصيدة النثر” التي تقوم جماليًّا على الحياد والمشهدية والتوغل في الذات بمشكلاتها الصغيرة التافهة واليومية، وتحاول -في الوقت نفسه- ألا تتخلى عن “الدهشة”، وأن تصنع إيقاعها الخاص بعيدًا عن الإيقاع المنتظم القديم، مثل الإيقاع السينمائي وإيقاع اللوحة التشكيلية.. إلخ، الإيقاع الذي يقوم على العلاقات بين الحروف والكلمات والصيغ النحوية وبناء الجملة..

في كل حياتي لم أفعل شيئًا سوى القراءة والكتابة

الشعر بهذا المفهوم له شعراؤه الذين يحفرون في مجراه ويجددون قوالبه، وهم قليلون جدًّا ومعروفون في كل البلاد العربية، هؤلاء الذين يدركون أن “القصيدة” -التي أصبح اسمُها نَصًّا- بناء جمالي يقوم على هندسةٍ ما، خفيَّةٍ وناعمةٍ، ومدهشة ومباغتة في الآن ذاته.

وعن سؤالك حول ما إذا كانت القصيدة تغيرة تحت سطوة وسائط التواصل، سأقول لك نعم بالتأكيد، لأن الشعر كائن حي يؤثر ويتأثر، لكنه -كما أتصور- لم يصبح سطحيًّا كمئات الكتابات التي تقابلنا كل يوم، ولم يصبح أداة -مجرد أداة- لتوصيل رسائل مباشرة بين المحبين، فهناك فارق بين أن يستجيب الشعر للمتغيرات، وبين أن تدفع المتغيرات الوالهين ليكتبوا ما يتصورون أنه شعر. هل الفرق واضح؟

 

3- ماذا تريد كسمير درويش من الشعر والأدب والصحافة والكتابة عمومًا. ما هو مشروعكم الأدبي إن جازت صيغة السؤال؟

– في كل حياتي لم أفعل شيئًا سوى القراءة والكتابة، فباستثناء خمس سنوات عملت فيها محاسبًا، فقد تكسبت رزقي من العمل في مؤسسات ثقافية، فأنا لا أستطيع أن أعيش إلا في هذا المناخ الثقافي، ويومي كله منذ أن أصحو إلى أن أنام يدور في فلك القراءة والكتابة، كما أنني شغوف بمشاهدة اللوحات التشكيلية والأفلام السينمائية الأجنبية جيدة الصنع.

أقول لك هذا لتدرك أن الكتابة بالنسبة لي نمط حياة، أعيش داخلها وأرى الحياة من خلالها.. أتصور أن كتابة الذات هي وسيلتنا لفهم أنفسنا وفهم أجسادنا ومتطلباتنا واكتشاف تناقضاتنا، وهي الوسيلة لفهم العالم من حولنا: صراعاته وحروبه وأطماعه وانحيازاته، لذلك أنا أكتب لأفهم نفسي، لأرفع الستائر عن الانفعالات المكتومة.

أنا أندهش حين يحكي لي صديق عن ممارسة ما، لأنني أفعل نفس ما يفعله -وأنت وكل الناس- دون أن يقول أحدٌ لأحدٍ أنه يفعل ما يفعل وما يفعله الجميع، الكتابة هنا تكشفنا أمام ذواتنا، وتوصلنا إلى نقاط التشابه والاختلاف بيننا، كما أنها وثيقتنا التي سنتركها للأجيال القادمة لكي يعرفوننا، يعرفون كيف كنا نعيش ونفكر ونتصرف إزاء مشكلاتنا، بالضبط كما نعرف الآن أنماط حياة الفراعنة الذين عاشوا على نفس المساحة التي نسكنها الآن منذ سبعة آلاف سنة، نعرفهم من خلال نقوشهم على الجدران، لذلك فكتابتي هي نقوشي التي سأتركها خلفي.

قد يعجبك ايضا