من زوايا النسيان.. الحلاق الذي جزّ رؤوس النخب!

20 مايو 2023

سامح محجوب – القاهرة

“أنام أنا !
إزاي أنام !
وفين أهرب من الأيام !
دانا لو غلبني النوم
بكون آخر عيون بتنام”

بهذا الحس الوجودي العميق بساطةً وعفويةً يلخّص حسن أبوعتمان وجع الهامش الطويل والممتد فى مواجهة متنٍ ظل يمارس عليه وعلى غيره -من أصحاب الياقات الزرقاء – سلطة الطبقة والتصنيف والموقف حتى وإن سمح لبعض سكّان الهامش التواجد بقوة الدفع والحضور والصدفة – حتى لو حدث ذلك لا يمكن أن يستمر بل ويظل مطرودًا من جنة الصفوف الأولى.

النخبة التي تستحوذ على الأضواء بمهارات لا يجيدها أيوعتمان وغيره ممن حرمتهم ظروفهم الاجتماعية من سياقات لا ذنب لهم فيها حيث ولد أبو عتمان بعيدًا عن القاهرة بثقلها المركزي؛ ولد بالمحلة الكبرى فى الخامس عشر من يوليو عام 1929، وتعلم حتى وصل للصف السادس الابتدائي وقيل إنه ترك التعليم بسبب إصابته بسحابة بيضاء على إحدى عينيه وهو الأمر الذي لا أرجّحه ! الشاهد فى الأمر أنه اضطر للعمل فى وقت مبكر من عمره، حيث التحق للعمل بشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وهو فى سن الرابعة عشر ومكث بها لمدة عشر سنوات قضى معظمها كخطّاط للشركة.

كان موهوبًا فى كتابة الخطوط العربية ؛ وكان أن ترك الشركة واحترف مهنة الحلاقة وفتح محلًا للحلاقة وكان يعتبرها مهنة تحتاج لشخص يتمتّع بحس فني خاص وأنها ليست مجرد مهنة يمكن اكتسابها بالدربة والمران لهذا حقق شهرة واسعة وأصبح محله ذائع الصيت فى فترة وجيزة إلا أن القلق والحيرة وعدم الطمأنينة التي تصيب المبدعين لم تدعه يهرب بعيدًا عن حلمه ونادت عليه النداهة مرة أخرى فى اتجاه آخر ومكان أكثر وحشية وزحامًا؛ القاهرة التي سيشعلها بعد وقت قليل بكلماته القاسية المدببة الجارحة لذوق السائد والمستقر وذلك بعد سنوات من الكفاح المسلح بدأ فى عزبة ( أبو أتاتة) بالجيزة المكان الذي احتضن غربته الأولى داخل المدينة المزدحمة التي استيقظت على ذات صباحٍ على وقع كلماته-شديدة الخصوصية والكثافة الشعرية – بصوت المطرب الشعبي المقتحم آنذاك محمد رشدي :
“عرباوى شاغلاه الشابة السنيورة
أم التسريحة بترسم ضلايه على القورة
وضفاير غارت م القصه
رقصت على رن الخلاخيل
بتبص بصه الله عليها
الشمس تخجل قدام عنيها
والبدر يسها لما يراعيها
وايش حالى أنا يابو قلب غاوي
عرباوى عرباوي”

وهكذا أصبح رشدي هو الناطق الرسمي باسم الشاعر الشعبي حسن أبوعتمان حيث غنى له بعد ذلك أغاني: “والله وفرحنا لك يا وله ، ياعبدالله يا اخويا سماح”وغيرها من الأغنيات

هذا إلى جانب مطربين آخرين كمحرم فؤاد ومحمد قنديل وكارم محمود وعبداللطيف التلباني، إلى أن التقى بالصدفة البحتة فى أحد الأفراح بضالته فى الغناء الشعبي المطرب الشاب أحمد عدوية المطرود مثله تمامًا من جنة المتن ليكوّنا معًا ثنائيًا فنيًا يقض مضجع المتن الذي ظل لفترة كبيرة مطمئنًا لعدة أصوات مكرسة، وبين عشية وضحاها يصبح أبو عتمان وعدوية – عازف الرق السابق – وهاني شنودة الملحن الصاعد بقوة – حديث المدينة التي ترقص خفية على أغنيات “زحمة يا دنيا زحمة ، وكركشندي دبح كبشو، وسلامتها أم حسن، ويا ليل يا باشا يا ليل، ويا بنت السلطان” وتلعن أصحابها وتتهمهم بإفساد الذوق العام فى العلن فى الوقت الذي توزع شرائط هذه الاغاني ملايين النسخ فى حالة أربكت حسابات كل من يعملون فى مهنة الغناء ، وهكذا ينتقم الحلّاق الموهوب ابن الهامش من المتن الذي ظل يطارده حتى رحيله مكتئبًا في 19 يوليو عام 1990 بمستشفى الهرم إثر إصابته بمرض الصدر ، رحل أبوعتمان لكنه ظل رقمًا يصعب تجاوزه في الأغنية الشعبية رغم تجاهله حتى اللحظة الراهنة في التأريخ لكُتّاب الأغاني الذي كان حسن أبو عتمان من أكثرهم موهبةً وخصوصية في الأغنية الشعبية التي أوغل بها الفتى الريفي البسيط فى عظم المجتمع الذي اعتاد أن يغني خلف الجدران ما يلعنه ويبتذله في العلم .

قد يعجبك ايضا