23 مايو 2023
سامح محجوب / القاهرة
ليس مصادفةً ألا يخلو تاريخ الشعر في كل الدنيا من وجود الشاعر الصعلوك الذي يتمرد على أعراف المجتمع ويهزأ بتقاليده التي تكرّس لأبويّة السلطة وتسلّط واستبداد الحكّام ولعل نماذج الشنفري والسليك ابن السلكة وتأبط شرًا وعروة ابن الورد وأبو نواس وعبد الحميد الديب وأمل دنقل مازالت حاضرة وبقوة في مخيلة الأجيال وإن اختلفت ملابسات وظروف وأشكال هذا التصعلك – ولست في حاجة أن أضع أبو النجوم في مصاف هؤلاء النبلاء الذين لا يتكررون صفةً ولا فنًا ولا حضورًا إنسانيًا– فكل شيءٍ في حياة أحمد فؤاد نجم كان يدفع به دفعًا نحو هذا التكوين العبقري . اليُتْم والخروج للحياة من ملجأ يفرض على من يدخله تركيبة معينة ثم مواجهة الحياة بلا سند من أسرة أو عائل أو رقيب -في سن هي من أخطر سنوات العمر- والتنقل بين أكثر من مهنةٍ وبلدٍ هذا إلى جانب مناخ اجتماعي وسياسي يتخلّق في رحم أمةٍ تنهض من سبات عميق !! فما بالك وكل ذلك يصب في عقل ووجدان موهبة فذة كموهبة نجم الذي لم يتلق تعليمًا نظاميًا ولم يعش حياة طبيعية مما عمّق لديه الإحساس بالتهميش الذي حوّله نجم لطاقة إيجابية في قطف الثمار المحرّمة ومجابهة الاستبداد والتسلط بجملة شعرية بالغة الحدة قد تبدو للوهلة الأولى هُتافًا سياسيًا لكنها بالتأمل تصبح بالغة الدلالة مشحونة بطاقة المخيلة الشعبية بكل ثرائها اللغوي والتراثي
هذا الى جانب أنها ابنة التجربة الحيّة المغموسة في تراب وعرق طبقات المجتمع الدنيا التي ينتمي لها نجم وهذا يفسّر وبقوة فرادة وثراء تجربته التي لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تجد لها أبًا في العامية المصرية وإن تقاطعت في بعض من تجلياتها مع مجايليه لاسيما الفذّ (فؤاد حداد) الذي قابله نجم في المعتقل عام 59 الأمر الذي لا يمكن التعويل عليه أيضًا نظرًا للاختلاف الجذري بين التجربتين – حيث ظل حداد مخلصًا لفكرة الفن بكامل قداستها ! بينما حوّل نجم الفن إلى رغيف خبزٍ ساخنٍ للمهشمين والمقهورين الذين أتى من بينهم وظل ملتصقًا بهم -حتى رحيله -متمسكًا بفكرة المثقف العضوي الذي يكتب قصيدته في الصباح ويخرج في المساء للدفاع عن قيثارته – من هنا كان أبو النجوم حاضرا وبقوة في متن الحركة الشعرية رغم الإقصاء والتعتيم الذي مارسته المؤسسة الثقافية والسياسية ضده باعتباره رقمًا صعبًا لا يمكن تدجينه أو الاطمئنان إليه – كل ذلك أسهم في تدويل قصيدته وذيوعها في مصر والوطن العربي والعالم على أوتار عود الشيخ الثائر إمام عيسى الذي التقاه نجم في المعتقل وعاش معه نفس ظروفه وكونا معا ثنائيًا إبداعيًا تخطى الأسلاك الشائكة التي فرضها السجن والسجّان وأضحى نجم نجمًا اسمًا وصفةً كما أصبح أيقونةً ثوريةً لمعظم الحركات الثورية والحركات الاحتجاجية التي شهدتها مصر والوطن العربي حتى رحيله في الثالث من ديسمبر الماضي وخروج درويشه من كافة طبقات المجتمع وراء جنازة جسده الذي عركته الحياة عاملًا وفلاحًا وعاطلًا ومسجونًا ومقهورًا وشاعرًا شعبيًّا كبيرا .