عبدالرزاق الربيعي: ها نحن اليوم “ننام ويحرسنا ليل أمس”

 27 مايو 2023

حاوره: هاني نديم

عرفته في البدايات حين كان ينمو “زغبي” الأدبي بينما كان هو يطير بجناحي نسر. علّمني وأنار لي فوانيس الطريق، صرنا أصدقاء طيلة إقامتي في سلطنة عمان، سنوات ونحن نلتقي يومياً وأنهل من شاعرية فريدة وعلم لغوي خاص، إلى جانب نقاشاتنا في شؤون الصحافة الشاسعة. إنه الشاعر العماني/العراقي/العربي، عبد الرزاق الربيعي بأكثر من 40 كتاباً وما لا يحصى من الجوائز والمقالات والبحوث.

سألته:

  • *في الغربات منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، هل صبغ ذلك كتاباتك وهل الاغتراب شبهة تلاحق أصالة المنتج؟ كيف ترى الأمر؟
-لا تنفصل الكتابة الشعرية بالنسبة لي عن حياتي الشخصية، فهي نتاج تجربة حياتية، وليست تهويمات، وألفاظا جامدة، فكلّ مفردة معجونة بدمي، لذا من الطبيعي أن تترك الغربة بصمتها على نصوصي، فتخرج كلماتي مدافة بحنظل الحنين، متقدة بسعير نيران الغربة، التي صارت قَدَر إنسان هذا العصر المبتلي بالصراعات، والإكراهات، والحروب، وهي ليست كلها نعيم، فروح المتغرب تبقى قلقة، تهيم في مكان آخر، كلّما جنّ الليل، يعصرها الندم، وتنطبق عليها حكاية وردت في كتاب (بحار الأنوار) تتحدّث عن أشخاص ساروا مع ملكهم، ودخلوا مكانا غير مألوف لهم فـ” سمعوا خشخشةً تحتَ أقدامهم وأقدامِ دوابّهم فقالوا: ما هذا تحتنا يا أيها الملك؟ فقال: خذوا منه، فإنّ مَنْ أخذ ندم ومن تَرك ندم، فمنهم من أخذ الشئ ومنهم من تركه،فلما خرجوا من الظلمة إذا هو الزبرجد، فندم الآخذُ والتارك)، فالندم يصاحب كل من يسلك طريق الغربة.

 

  •  الندم على ماذا؟ الخروج؟
– الخروج والبقاء معا، بل احيانا يندم المغترب كونه لم يبكّر بالخروج، وأحيانا اخرى يلعن الساعة التي حمل بها حقائبه، وعلى هذا الجمر وذاك تتقلّى روح المغترب في زمن صار الإنسان فيه محكوما بظروف تجبره على مفارقة الأماكن الأولى التي اطلق في فضائها صرخته الأولى.
  • تقصد الأوطان؟ 
– الوطن أكبر من حيّز جغرافي، فهو ليس أرضا، إنه مزيج من تراب وروح، وذكريات، وكرامة، وانتماء، الوطن كما يقول جان جاك روسو”، هو حيث يكون المرء في خير”، دون ذلك يصبح عبئا ينوء بحمله الإنسان، يقول التوحيدي في كتابه (البصائر والذخائر) “قيل لأعرابي: إنكم لتكثرون الرحل والتحوّل وتهجرون الأوطان، فقال: إن الوطن ليس بأب والد ولا أم مرضع، فأي بلد طاب فيه عيشك، وحسنت فيه حالك، فاحطط به رحلك”، وهكذا تقاذفتني الدروب والأماكن والمدن حتى حططت رحلي في مسقط، ويظلّ القلب ينبض بحبّ بغداد، وفي الليل تتجه بوصلته صوبها.
قصيدة النثر انفتاح على التاريخ العام والشخصي، والصيغ البلاغيةالجديدة، والالتفات للموسيقى الداخلية، وتجنّب التراكيب المستهلكة المستلة من الذاكرة الشعرية
  • اخترت قصيدة النثر بم تفسر انحيازك لهذا الشكل، وما رأيك بقصائد النثر التي نقرأها اليوم؟
– قصيدة النثر ليست مجرد تجاوز للأوزان، بل هي،كما ينبغي أن تكون، كتابة مغايرة، ورؤيا، وجاءت لتكون مصهرا تذوب به السرديات والمرويات واليوميات، والتفاصيل الهامشية، ونظلم قصيدة النثر حين ننظر إليها من زواية ضيّقة محصورة في التخلي عن الأوزان، المسألة أبعد وأعمق من وزن وإيقاع وتفعيلات،وأشكال منتظمة، فهي قصيدة خيال جامح، وانفتاح على التاريخ العام والشخصي، والصيغ البلاغيةالجديدة، والالتفات للموسيقى الداخلية، وتجنّب التراكيب المستهلكة المستلة من الذاكرة الشعرية، وقفزة عالية في فضاء مفتوح لكافّة الاحتمالات الجمالية.
  • فكرة الأجيال، هل تؤمن بها أدبيا؟
-لست مع التقسيم العقدي للأجيال الشعرية التي وضعها النقاد، فصنّفوا الاجيال حسب العقود ” جيل الستينيات، السبعينيات، الثمانينيات”، فالشعر مشروع فردي، لايرتبط بالجماعة، مع عدم نكران وجود سمات مشتركة في نصوص الشعراء المجايلين الذين يعيشون تحت ظرف واحد يؤطّر تلك السمات على نصوصهم، كظرف الحرب الذي انعكس على نصوص جيلنا الثمانيني، لدرجة ان الصديق الشاعر اقترح تسمية جيلنا بـ” جيل الحرب” عندما أعدّ ملفا عن الجيل عام ١٩٨٧ نشر في مجلة( حراس الوطن) العدد ٣٨٧ في عام ١٩٨٧ أعلن به عن ولادة الجيل حمل عنوان “أيها النقاد انتبهوا رجاءً.. الثمانينيون قادمون. جيل الثمانينات جيل الحرب” وقد ضمّ الملف شهادات لعدد من أبرز لشعراء الجيل نال اهتمام الوسط الأدبي، وطبعا مسألة الأجيال الشعرية خدمت الشعراء من الناحية الإعلامية والنقدية، لكن التقسيمات العقدية انتهت مع دخول الألفية، وصار النقاد يبحثون عن تسميات جديدة، كجيل مابعد ٢٠٠٣.
  • هل تغير عليك بوصفك كاتبا مخضرما بين ثمانينات القرن وما بعد 2003؟
– بعيدا عن كل تقسيم أو تصنيف زمني أواصل مشروعي في الكتابة الشعرية والمسرحية، ولا أضع نفسي في خانة زمنية، أو جغرافية معينة (هناك من يضعني في خانة شعراء الخارج مقابل شعراء الداخل)، قَدَر الشاعر الحقيقي أن يغرّد خارج السرب.
  •  ما قبل السوشال ميديا واليوم، كيف ترى تحولات المشهد؟
– كما تعلم، كان النشر لا يتمّ إلّا عبر الصحف الورقية، ولا ينشر النص إلّا بعد مرور أيام، وربماأسابيع، او شهور، اليوم صار النشر متاحا للجميع، وخلال دقائق قليلة، لكن هذه التسهيلات قادت إلى ماهو اخطر وهو التسرّع بالنشر والتساهل، فكثر الغثّ المليء بالأخطاء،كونه نُشر دون مراجعة، وقلّ الجيد، وظهرت طبقة سعراء جديدة يمكن تسميتها” طبقة شعراء الفيسبوك”!
  • لو أهدى لك أحدهم رواية كتبها الذكاء الإصطناعي، فهل تقرأها؟
– ربما ساكتفي بقراءة بضع صفحات منها، من باب الفضول لا أكثر، إما أن أقرأها كعمل إبداعي، فهذا غير ممكن، لأنّ هكذا عمل هو من نتاج الآلة وليس من نتاج التجربة الإنسانية، سرد الذكاء الاصطناعي بارد، ميّت في المهد، يفتقر لحرارة التجربة الإنسانية، وهذا يحول بيني وبيني إكمال قراءةتلك الرواية.
  • ماذا عن شعره؟
– لا يمكن اعتباره شعرا، فهو ليس نتاج شعور إنساني، فالأمر لايتعدّى رصف كلمات، ويكفينا ما نقرأ يوميا من رصف كلمات بلالون ولا طعم ولا رائحة!
  • لك صداقات ثقافية معمّرة، كيف حافظت على استمرارها؟

– أحتكم دائما في المسائل الكبرى للزمن، فهو غربال كبير، يصفّي ما يشكل عليّ، وكثيرا ما ابتلع الزمن صداقات طويلة، فبناء العلاقات الإنسانية يحتاج إلى وقت طويل، ومن يبني علاقة كمن ينثر بذورا بأرض محروثة، بعضها لايجد ظروف إنبات صالحة، فيموت وبعضها يستمر، والبعض الآخر يكبر ويثمر، وكثيرا ما يكون رهاني على الأخير، وبين حين وآخر، أقوم بمراجعات، فاطوي صفحات وأرمّم أخرى، وافتح صفحات جديدة، مهتديا بقول ابن الجوزي “رأيت الناس بين معارف وأصدقاء في الظاهر، وإخوة مباطنين، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها، نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف. وقلّة قليلة تبقى في خانة الأخوة، وهذه القلة تكفيني، فالعبرة ليست في الكثرة، بل في اليد الحانية التي تمتدّ إليك وسط هذه العتمة الوجودية المطبقة.

  • وهل وجدتَ هذه اليد؟

– كثيرا، وآخرها يد الحبيبة والزوجة جمانة الطراونة التي أهديت لها ديواني الأخير” ننام ويحرسنا ليل أمس”الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الرافدين.

قد يعجبك ايضا