29 مايو 2023
نص خبر / مكتب القاهرة
حول التأثير الواسع الذي أحدثته قصيدة الكوليرا فى شكل ومضمون القصيدة العربية كانت هذه الدردشة مع الكاتب والناقد العراقي / عبدالوهاب عبدالرحمن
كيف تقرأ قصيدة الكوليرا بعد أكثر من سبعين عامًا من كتابتها ؟!
ما السياقات الفنية والجمالية والخطاب الشعري الذي تبنته قصيدة الكوليرا ؟
حدث في عام ١٩٤٧ م أن انتشر وباء الكوليرا من قرية ( القُرين ) في الشرقية ليعمّ أماكن أخرى في مصر حاصدًا الألوف من الأرواح من مختلف الأعمار .. وحين تحول الوباء الى جائحة اهتز لها وجدان الشاعرة العراقية نازك الملائكة والتي لم تقدم للجائحة وصفا حياديا لكونها من بلد بعيد جغرافيا قريب وجدانيا وروحيا . بل تمثلتها إنسانيًا وفنيا لتفضي بها الى هاجس التحديث والاختلاف فجاء النص على غير مثال صدر عن تأثير عميق لانفعال أحال النص إلى شكل شعري تفاجئت هي نفسها به ووجدت أنها تجترح لغة لم تألفها وهي تنحى منحى اسلوبيا ينزع الى تجربة حداثية تؤكد أن لا وجود ” لحداثة بالمطلق أو بمدلول واحد جامد .” مما دفعها لابتكار لغة استبدالية تؤثر المجاز على الحقيقة بسعة تخييلها وتنوع مستويات قراءتها حسب وعي المتلقي .. دون لغة سياقية تعتمد التوثيق والتقرير بدلالات محددة . فجاءت لغتها محلقة في فضاء الإيحاء وتجلياته الدلالية أرادت الشاعرة بذلك أن تطرح أسئلة
وجودية بعيدا عن التماهي وأوهام التفسير قريبا من واقعية التصور .. لتضعنا بالتالي في حالة جدل ملتبس ، سيما وأنها كانت في مرحلة تحول من الإلحاد إلى الإيمان .. لتبقي هذا الجدل مهيمنا على مكونات التجربة وهي تتشكل بأبعاد حسية وروحية ..ورؤيا مغايرة للواقعة تتجاوز مواضعاتها التقليدية باتجاة إثارة لأسئلة جريئة عن أسرار الوجود والقدر ..وتقصّي أثارهما في بنية الشعر المتمرد في قيمه ، المثير لأسئلة كونية تقف بين الواقع والوهم .. تحقيقا لمواصفات حداثية كان لها فضل التأسيس والانطلاق متخذة من الكوليرا مثالا تطبيقيا يخترق القديم بنسف تقاليده ليقلب المعادلة بأتجاه التحرر من قيود التفعيلة عبر اوزان تتشكل فاعليتها مع عصر مغاير بمعطياته والتعامل معها بحساسية جديدة ومرونة وأسلوبية يتسع فيها فضاء الكشف عن لغة وُصفت ” بمغامرة لقول ما لا يقال ” ..لنرى قصيدة الكوليرا وقد احتشدت بمشاعر جياشة نقلتها عبر منحنى سريع التحول يجتاح اماكن وزوايا من الواقعة / الفاجعة :
” في كل مكان يبكي صوت
في كل مكان روح تصرخ في الظلمات
في كل مكان يبكي صوت
هذا ما مزقه الموت
الموت ، الموت ، الموت ،
يا حزن النيل الصارخ فما فعل الموت ”
صور تحتدم فيها المشاعر والألم وهي تنوح عاجزة تشكو بأصوات مزدوجة تشي بعمق إيمانها بقضاء الله وقسوة قدره ، وهي تطرق بالصوت العاجز الضعيف ابوابا موصدة .. تطرح اجوبة بصيغة سؤال استنكاري :
“هذا ما فعلت كف الموت
الموت ، الموت ، الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت ”
وتعود لتضعنا في قلب المأساة .. في مواكب ضحاياها ..وتقول في وصف فصل من فصول الوباء : ” وكانت جثث الموتى في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل ، فرحت اكتب وأنا اتحسس صوت أقدام الخيل ” :
” سكن الليل
أصغى إلى وقع صدى الأنات في عمق الظلمة
تحت الصمت ، على الأموات .”
هذه المتابعة لمراحل تطور الوباء بزيادة عديد ضحاياه بصورة مريعة لتصل الى ٣٠٠ حتى ١٠٠٠ ضحية في اليوم الواحد ..” وهذا ما افادت به الاخبار التي تتابعها ( الشاعرة ) عبر المذياع ”
جعلها تعيد كتابة القصيدة باكثر من صيغة – وهي تتابع باهتمام بالغ حتى وجدت نفسها أمام هذا التتابع المحفز لتشكيل القصيدة بما هو اوقع للنفس والوجدان عرفت أن ” ليس هناك أقوى من فكرة جاءت في وقتها .” وبذلك حازت قصيدة الكوليرا اهتماما بالغا في الاوساط الشعرية ، جعلت من نازك الملائكة علامة فارقة وفيصلا بين مرحلتين شعريتين .. وبقدر ما كان الوباء فاصلا في تاريخ الأوبئة .. كانت قصيدة الكوليرا فاصلا في تاريخ الشعر وتحولاته الحداثية نقلة نوعية في بنية الشعر الحر .. وجعلت من الشاعرة رائدة من رواده الأُول ..
واللافت ان القصيدة كانت في ملتقى اتجاهيين متلازميين (قديم وجديد ) بوجودهما يكتمل التحقق من تجربة شعرية تشكل نسيجها مع نسيج الوباء وتجلياته .. وكما نوهنا كان حدثا فاصلا في تأريخ الاوبئة كما كان حدثا فاصلا في حركة الشعر في تحولاته عبر ارهاص أشعل الاحساس بضرورة ابتكار شكل تعبيري يتناسب وثقل الجائحة .. يقترب من ( الشعر الغنائي ) بمفاهيمه الخلافية بين شاعر وآخر وجدليته بين تجربة واخرى .. وكله يدور بين الذات والموضوع لأنه ” يعتمد متحدثا واحدا يعبر عن حالة ذهنية معينة او عملية تفكير واحساس مشحونة بالتجربة الذاتية للشاعر .”
وما جاءت به الشاعرة اشتمل على قبمة دلالية ..تصدر من اعماقها لتؤكد مدى تفردها كذات …. انعكست عليها مرارة حدث مأساوي احالته الى ملامح وصفية .تتماهى مع المتلقي
مشاركة سابقة
المشاركة التالية