أسامة الروماني: اعذروني لقد حان وقت الرحيل!

29 مايو 2023

وسام كنعان- دمشق

– اعذر انقطاعي  لقد أجريت عملاً جراحياً وعدت اليوم إلى البيت في نقاهة تحت المراقبة لمدّة شهر..

– ليس هناك مشكلة. المهم أن يظلّ قلبك ينبض بهذه الرهافة!»

هذا الحوار المقتضب الذي دار بيننا وبين الممثل السوري أسامة الروماني (1942/2023) على الواتس أب، كان الأخير قبل أن يطفئ الرجل أضواءه صباح اليوم، و يوضّب حقيبته، ويمضي إلى الأبد، ولن يكون غريباً عن أخلاقه أن يعتذر من الناس حتى بسبب موته وغيابه المطلق!

لعلّ هذا الحوار العابر يختصر كثيراً من دماثة الرجل، ويلخّص منطقه الأنيق بالتعاطي، ويكشف عن مساحات وافية من محبّته وإقباله على الناس وتمسّكه بالحياة وخبزها اليومي أي الأصدقاء.

أما تعليقه يوم اشتغل في عشارية «شرف» (كتابة ديانا جبّور وإخراج مجيد الخطيب وإنتاج «أفاميا» فراس الجاجة) وجاء فيه حرفياً في خطابه للمخرج الشاب الذي يجايل أحفاده: «شكراً لأنك أخذت بيدي لأكون بجانبك» فهو يعطي فيه درساً بليغاً في المهنية التي تنطلق من الاعتراف بالآخر، ومكانته مهما بلغ التباين في الخبرة. ويصوغ حالة زاهية من التواضع الصادق الذي يشيّد عداءً جذرياً مع الرياء والتكبّر. بهذه الصيغة كان أسامة الروماني يطرح نفسه. رغم أنه أحد أيقونات الفن في سوريا، وشريكاً حقيقياً مع المؤسسين، وعنصراً فاعلاً في وضع المداميك الأولى، لكّنه لا يخجل في أن يكتب مباركاً علناً لمخرج شاب في أولى أعماله التلفزيونية ويقول له بأنه أخذ بيده!

الممثل السوري المخضرم أسامة الروماني شقيق الراحل هاني الروماني، وأحد المؤسسين للدراما في سوريا، وأبرز وجوه الأبيض والأسود، والذي غادر بلاده منذ عام 1978 بحثاً عن العمل في الكويت وأقام فيها، بعيداً عن الفن الذي قرر ركنه جانباً، ربما لأنه لا يطعم خبزاً نظيفاً. كان أحد الصنّاع الرئيسيين لمسلسل الأطفال الشهير «افتح يا سمسم» لكن الجمهور العريض يعرفه بدور الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي في سلسلة «حمّام القيشاني» (إخراج هاني الروماني). ولعلّ عودته إلى سوريا قبل حوالي عام ونصف العام كانت بمثابة إلقاء تحيّة الوداع الأخيرة على أهله وبلده وجمهوره قبل الرحيل النهائي. فقد اشتغل خلال الموسمين الماضيين بمجموعة كبيرة من المسلسلات أبرزها شراكته مع دريد لحّام مجدداً في مسلسل «على قيد الحب» (فادي قوشقجي وباسم السلكا) وفي «مربى العز» (علي معين صالح ورشا شربتجي) و«صبايا» (محمود إدريس وفادي وفائي) وغيرها الكثير…

الرجل كان بمثابة حالة فلكلورية مبهجة، وهو مع بعض زملائه القلائل يمثّلون، استعادة لأبرز مرحلة حكى فيها الفن في الشام عن قضايا الناس الصغرى، وأوجاعهم وتاريخهم، عندما كان الفن فعلاً منفَذاً لشهقة أوكسيجين ومجابهاً  صريحاً لكلّ أشكال التلوّث البصري، والانحلال الفني.

عاصر الراحل المراحل الذهبية، بما فيها المرحلة التأسيسية للفن المسرحي والتلفزيوني في هذه بلاده المنكوبة اليوم بفعل الحرب والحصار الاقتصادي والكوارث الطبيعية! ولعلّ أبرز محطّاته كانت شغله في عروض مسرحية خالدة مثل «غربة» و«ضيعة تشرين»

كان يروي لنا عند لقاءاتنا المتكررة فيه بحنين مسيّج بالشغف، كيف كان يعيش في زمن مترف بالصدق والغيرة المهنية، يحيلون مع رفاقه الأعمال التلفزيونية، لما يشبه الشركة المساهمة، عندما يتوازعون الأدوار الأولى لمجموعة ممثلين يتقاضون عليها حوالي 254 ليرة سورية، ثم يتنازلون عنها لممثلين آخرين كي يستفيدوا بالأجر، ويلعبون أدواراً ثانوية بأجور لا تتعدى 170 ليرة سورية. ويضرب مثالاً على ذلك ما حصل في مسلسل «هذا الرجل في خطر» (1975 كتابة عادل أبو شنب وإخراج علاء الدين كوكش/13 حلقة) عندما كانت كلّ حلقة بطولة أربع ممثلين رئيسين وآخرين ثانويين يتناوب عليها الجميع. كما كان يسرد لنا رفقة صديقه القديم عبد الهاي الصبّاغ عن ذكريات «الموكامبو» في حلب أيّام كانت تجول أكثر عروض جماهيرية بتاريخ البلاد وهي عروض دريد لحّام على المحافظات السورية، وتظلّ مشعّة بتزاحم مشاهدين ينتظرونها على أحرّ من الجمر.

كما يستذكر تفاصيل دقيقة عن الليلة السوداء التي أصيب فيها نهاد قلعي بشلل نصفي على خشبة المسرح، أثناء أحد عروض «غربة»! وكيف ظنّه الجمهور بأنه صعد على الخشبة وهو سكران، لكّن لم تمض دقائق حتى أوقف دريد لحّام العرض معلناً إصابة أستاذ السيناريو السوري الأوّل في سوريا بالشلل، وكيف أكمل العروض الراحل تيسير السعدي بديلاً عن قلعي، ثم أصّر «غوّار» على أن يرافقهم شريكه نهاد في العرض الخاص بالتصوير التلفزيوني. حكى  لنا أسامة الروماني مرّة كيف تحمّس نهاد قلعي أثناء تحية الجمهور، وتمكّن من تحريك يده المشلولة لمرة واحدة وأخيرة، قبل أن يعجز عن ذلك بعدها، قال لنا: «دقّقوا في التصوير التلفزيوني الموجود في الأرشيف لتتأكدوا من صدق ما أرويه».

الروماني كان أحد مؤسسي «نقابة الفنانين السوريين» وحكى لنا مرة بذاكرة متقدة عن أوّل مهرجان مسرحي في دمشق سنة 1969 عندما جيّر وزير الثقافة حينها الراحل فوزي الكيّالي بعض الاتفاقات الفنية لصالح النقابة، ما خوّلها أن تقيم مهرجاناً مهمّاً شاركت فيه فرق مكرّسة من دول عربية وأجنبية عدّة. حينها كان يجري الروماني مقابلات مع ضيوف المهرجان، ويتقاضى أجراً يناهز 10 ليرات سورية على كلّ لقاء مع كبار الضيوف بينهم: روجيه عسّاف ويوسف العاني مثلاً، ثم كان يتبرّع بأجره لصندوق النقابة…

كما ضحك طويلاً ذات مرة وهو يخبرنا عن الكوميديان المصري الراحل توفيق الذقن الذي أضاعوه قبيل عرضه، ثم وجدوه في أحد المخافر بعد مشكلة اعترضته حين قصد أحد البارات فور وصول طائرته إلى دمشق فوراً، لكن ما إن وصل إلى المسرح ودارت البروفة حتى عاد ممثلاً بكامل حلّته وبهائه!

أما أكثر المحطّات التي كانت تكسيه بالفرح العامر فهو استحضاره للراحل  محمود ياسين الذي شارك في «دائرة الطباشير القوقازية» (لبرتولت بريشت) مع «فرقة المسرح القومي المصري» وأمضى الروماني وقتاً ليحفظّه دوره بطلب من مخرج العرض.

 

قد يعجبك ايضا