أنس الغوري – كاتب وشاعر سوري
يقام حاليًا معرض للكتاب في المدينة التي أقطنها، وكان من المقدّر أن أعمل به كما في السابق ثلاث ساعات صباحية قبل ذهابي لعملي الرئيسي. لقاء أجر عملي آخذ عوضًا عنه كتب. لكن، حدث أمر وحال دوني ودون العمل به. هذه الحيلولة أعادتني للصفوف الخلفية لمسرح الحياة، حيث نحن دومًا.
بتُّ ليلة قبل بدأ المعرض يتقاذفني الجمر المُضطَّرم للأفكار في استرسال البحث عن إمكانية الولوج لسبيل امتلاك حاجتي من خبز قلبي وزيت عقلي: الكتب. داخل عقلي الملتهب، قلّبت كلّ الحلول على أمل الوصول لجدوى، لكن لم أصل إلّا لاقتطاع شيء أساسي يتعلق بي بعيدًا عن نصيب العائلة.
توصلت أخيرًا لما هو آت: اقتطاع ثمن المواصلات ليلًا أثناء عودتي من العمل والاستعاضة عنها بالمشي مع استبدال ثمن سندويشة الغداء بأخرى من المنزل والرضا بثنائية الزيت والزعتر لفترة طويلة، هذا سيجعلني مخوّلًا لشراء كتابين أو ثلاثة كأبعد حد ممكن من الكتب القديمة والمستعملة. بعدها، حتّى أفرّ بروحي من فعل واقع يهوي بنا لمنازل الزمهرير؛ امتطيت الحلم، وأخذني عاليًا، انتشلني من ضيق المكان واليّد. هكذا حتّى النُّعاس. كيف لا تُفزع المشاعر وكلّ ما أنا عليه وبه إزاء الكتاب؟!
إنّ الكتاب هو القيمة الإيجابية العالية لحياتي. العزاء الأكبر. أواجه به كلّ أشكال القبح والخراب. هو الجسر الممتد فوق الهاوية التي بيني وبين العالم بإنسانه. كما هو كذلك سبيلي لإدراك المعايير الإنسانية السامية لكائنٍ مثلي يبحث في كواليس الحياة. يبحث عن حرية قصوى ومستحيلة، لكنّه بعناد الطفل وحاجة الرغبة يواجه ويستمر، عن بواطن المشكلات والإشكاليات ينقّب، وما يفتقر له عالمنا الأرضي يبحث ويجدّ. صحوت في اليوم التالي، يوم افتتاح معرض الكتاب، بعد خروجي من المنزل، باتفاق ضمني ومخاتل بيني وبيني، هو أن أتلكأ ما استطعت في الذهاب للمعرض لتكون الكتب النفيسة والفريدة بفحواها قد نفدت أو قاربت؛ لتقلّ حسراتي.
إنّ الكتاب هو القيمة الإيجابية العالية لحياتي. العزاء الأكبر. أواجه به كلّ أشكال القبح والخراب. هو الجسر الممتد فوق الهاوية التي بيني وبين العالم بإنسانه
هكذا بدأت أطيل الطريق بتسليم قدماي عبثية المشي وتغييب ذهني جزئيًّا لوقت محدد. أخطو بنصف حضور واكتمال حلم، لا أستدعي كامل حضوري إلا لطائر أو حيوان أو شجرة أو أطفال، لكلّ ما هو غير بشري. على ما كنت عليه إلى أن وصلت بعد وقت الإفتتاح. دخلت، والقرّاء الزوّار مشغولون بعُرسهم. بنظرة سريعة وماسحة وجدت الكثير ممن أعرفهم من أصدقاء الكتب، لكن لم تكن بي رغبة إلّا للإنزواء وعدم مشاركة أيّ حديث. جرّني قلبي جهة القسم المُحبّب: الأدب، جهة ما يغسله ويطهره. يدٌ في الجيب والأخرى تفتّش عن الحيوات الممكنة بما تمتلك في الجيب الأخرى. في ظلِّ هذا المشهد الماثل أمامي، افترستني عدّة مشاعر متضاربة لم أتمكن دحرها. جميع ما تلتقطه عيناي يثير بداخلي أعلى درجات القلق والشجن والحزن.
شعرت وكأنّني عارٍ في بيت عزاء! أصوات الزوّار الممتلئة بالبهجة تنتهك حدودي الفاصلة، تثقب قلبي وتجعل ما به من ماء حياة ينداح! حاولت الهرب من خلال الكتاب باللّوذ به ومناجاته كما دائمًا في حالات الاغتراب، يهبني النّور والحبّ والجمال والمعرفة، التي أيادي الحياة الجامحة بقسوتها تدفع على نفيهم. لم تدم طويلًا الحالة الوجدية بيني وبين الكتاب لأنّني اصطدمت بأحدهم، وكان صديق يجمعني بمعرفته الكتاب. هذا إنسان لم يلّوث قلبه بعد، قلبه قلب عصفور، يكتنز براءة الطفل.
بعد التحية، سألني السؤال المعروف والمعتاد: ما هي قائمة مشترياتك؟ أجبته بادئًا بضحكة خافتة تراجيكوميدية، ثم قلت له: ليس بمقدوري هذا الوقت إلّا شراء كتاب أو اثنين من الكتب القديمة. قال لي: “قبل الأمس بيوم لم يكن عندي نية الحضور، تحصّلت من عملي بالأمس ما يخولني من الشراء اليوم”. معروفٌ عن هذا الصديق في مدينتنا أنّه مثالٌ صادق للثقافة، وهو ممن يعيد لنا إيماننا بجدواها كلّما تقاطعت طرقنا وتحادثنا. “دون كيخوت” هذه الرقعة في المدينة. عاجلني مباشرةً بكلمات جعلت قلبي يرتجف: “صديقي، أخذت حاجتي وأكثر من الكتب، سأعيد ما يمكنني الاستغناء عنه حاليًا، وبالمقابل تأخذ أنت ما تحتاجه الآن، وبظروف أفضل لك تجلب لي كتب لم أقرأها من قبل، وتستشف من ضمان جدواها لي”.
سيبقى في ميادين الفضل سبّاق، وفي كلّ مكرمة له غُرّة. لم يترك لي مجال للشكر والكلام، غادر مسرعًا جهة قسم آخر بعد قال لي بابتسامة صادقة: “بسرعة حتّى لا تتأخر على عملك وتأخرني كذلك”. رحت آخذ ما هو أهم متنازلًا عن المهم لأجلٍ آخر، وقلبي الممتلئ بالامتنان يردد كببغاء الشكر الجزيل. من نقاط ضعفي وفضح هشاشتي بحضورهم: الكتب والحبّ والجمال. دفع الصديق ثمن كتبه وكتبي بعد انتهاء جولة الإقتناء، وودعنا بعضنا البعض.
تحمل على ظهرك عائلة تحتاج أن تؤمن لهم ما يبقيهم على هامش الوجود من علاج ولباس وطعام وأجار سكن، كيف ستكتب؟
قبل خروجي من المعرض، بعيدًا عن أعين القائمين على المعرض والزوّار، قمت بفعلٍ غريب أو ربما مشين أو أنانية مفرطة، لا أقدر على تفسير ماهية الشعور، بيد أنني غير مشغول به! خبأت مجموعة كتب تحت طاولة يستحيل الوصول لهم إلّا بعد انتهاء معرض الكتاب وإفراغ القاعة كليًّا. هذه الكتب يستحيل على صديقي شراؤها كما عليّ يقينًا، لذا خبأتها. كنت مخدّرًا بشعور الحاجة الماسة والرغبة المشتعلة للتملُّك. إذ أنّني منذ زمن وأنا أحلم باقتنائهم، والضلوع في غمار أفكارهم. فعلت هذا على أمل معدوم أن تحدث معجزة أسطورية وأتمكن من شرائهم! إنّ معطيات واقعي تكفر بالشعور، وبمجرد حبوه بأزقة عقلي سيكون هناك ألوفٌ مُؤلّفة من الأسباب التي ستغتاله. أخدّر نفسي بالوهم، بينما ذاكرة الخراب التي هي ذاكرتي، ترمي لي قول الشاعر أنخل غونثالث: “أعرف أن لا أمل هناك، ولكنّي قلتُ لك: تحلَّ بالأمل، قلتُها وما لي سوى غايةٍ وحيدة: أن أسمِّمَ الحياةَ بسمِّ الأحلامِ المميت”. في تفسير علاقتي بالكتب لا أجد إلّا أنّ وجودي مقرونٌ بها، ما دمت أقرأ؛ فأنا أتنفّس. بغيرها لا أكون.
لربما يتساءل قارئ عابر لكلماتي، ويقول: ما هذا العجز والتطرف؟ أجيبه: اخرج من دائرتك، وتعال حافي القلب حيث “اللّا أحد” ينتظرك بالسؤال. كيف ستعبّر حينما تكون مرغمًا على أن تكون لاجئ وتعمل أربعة عشر ساعة عمل دون ضمان وتأمين وبأجرٍ غير إنساني وأخلاقي، وفوق كلّ هذا بطريقة غير مشروعة؟ إذن، تحت الخطر! قل تحت كلّ ما هو خارج من قاموس الحياة. حينما تحمل على ظهرك عائلة تحتاج أن تؤمن لهم ما يبقيهم على هامش الوجود من علاج ولباس وطعام وأجار سكن، كيف ستكتب؟ وكلّ هذا بذاك الأجر المجحف! غير أنّني لم أذكر لك رسائل الدائنين ومكالمات المؤجِّر و مقاطعة الأخوة المقيمين بجحيم الداخل لأنك عاجز عن تلبية طلباتهم التي تحرث القلب!
لاحظ معي، كلّ ما تم ذكره يدرج في معجم الحياة أنّه مقومات، وأنا لم أتطرق لما هو أبعد كحق مشروع. لن آخذ بيدك لمفاصل وجودنا العربي المهشمة! أظن، وقتها، كي تعبّر، ستحشر حروفك لتكون “علبة مولوتوف”. هذا الوقت، وفي البلاد التي هي خطأ على الجغرافية، تراجيديا الوصول للكتاب، أليس كذلك؟!