لم يعد هنالك بالغ على سطح الكوكب إلا ولديه هاتف جوال في يده، تلك مبالغة مستحسنة وقريبة من الواقع، هذا قضى تماماً على مركزية الخبر ومصدره، فقد أصبحت صحافة المواطن مشتبكة مع المصادر الكبرى والوكالات التي نعرفها، تقدم الأحدث والأجد من خلال كاميرا موبايل مفتوحة على الحدث مباشرة.
هذا الحدث الجلل، جعل الوكالات الكبرى تغلق ما نسبته 60 بالمئة من مكاتبها حول العالم، وهي نسبة تقريبية أيضاً تختلف بين وكالة وأخرى، إلا أن القطعي أن كل الوكالات تأثرت وخسرت، فما بالنا اليوم بالصحف الورقية التي بتنا نودعها إلى مثواها الأخير واحدة بعد أخرى؟
لقد تغيرت بنيوية الصحافة وآلية عملها كخط إنتاج. الوسائط الرقمية والتصوير والذكاء الاصطناعي اليوم بات كابوساً يهدد المهنة. حيث تواجه المؤسسات الإخبارية اليوم تحدياً حقيقياً لتحقيق الدخل من جناحها الرقمي، بعد أن تضاءلت عوائد مطبوعاتها. فقد شهدت الصحف انخفاض عائدات الطباعة بوتيرة أسرع من معدل نمو الإيرادات الرقمية، وعلى وجه الخصوص، في المشهد الإعلامي الأمريكي، حيث تم تقليل تكاليف غرف الأخبار وقلصت من عدد موظفيها وتغطيتها كقنوات إعلامية تقليدية، حتى التلفزيون بات يصارع تراجع الجماهير. فعلى سبيل المثال، بين عامي 2007 و2012، قامت CNN بتقصير قصصها وتحريرها إلى ما يقرب من نصف طولها الأصلي.
ووفقاً لمركز بيو للأبحاث، انخفض توزيع الصحف الأمريكية بشكل حاد في القرن الحادي والعشرين. كما أقحم العصر الرقمي الصحافة المواطنين العاديين في لعبة الصحافة وازدهرت صحافة المواطن يوماً بعد يوم، وصارت المقاطع المسجلة بشكل فردي من خلال الهواتف الذكية المجهزة بكاميرات الفيديو جزءاً لا يتجزأ من الصحافة اليومية، وباتت تشكل نواة أولية لتحقيقات استقصائية كبيرة. كذلك لعبت الأخبار التي جاءت من مصادر متنوعة متناً جديداً للصحافة الجديدة، وشكلت المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى مساراً كبيراً لمصادر صحفية جديدة. وبذلك تعطل جزءٌ كبير من المؤسسات الإعلامية التقليدية فقط…
إلا أن الخطورة هنا هو الانزياح التام عن المسارات المتراكمة عبر التاريخ لتأسيس العلوم الصحفية، لقد رمى (صاحب الهاتف) بكل المدونات الأخلاقية في سلة المهملات، حسنٌ هذا سيعيد صياغة الأمر من جديد. ذلك أن الصحافة على الدوام تستمد قوانينها من بنيتها ولدائنها. لا بد وأن نجد جلاً للاختراقات وما لف لفها إلى جانب الخطر الأكبر وهو التزييف العميق لمحترفي التعامل مع الذكاء الاصطناعي.
تاريخياً؛ أقرّ الجمع الأكبر من منظري الصحافة وواضعي المناهج الأكاديمية عدة مبادئ توجيهية للصحفيين تتمحور حول وجوب أن يكون ولاء الصحافة الأول هو للمواطنين، وبالتالي فإن الصحفيين ملزمون بقول الحقيقة، وعليهم أن يكونوا بمثابة مراقب مستقل للأفراد والمؤسسات القوية داخل المجتمع. من وجهة النظر هذه، فإن جوهر الصحافة هو تزويد المواطنين بمعلومات موثوقة من خلال نظام التحقق.
لاحقاً، ضمنت المدونات الأخلاقية مخاوفها إزاء الإشارات التمييزية في الأخبار على أساس العرق، والدين، والتوجه الجنسي، والإعاقات الجسدية أو العقلية. واحترام افتراض البراءة في القضايا التي لا تزال خاضعة للقضاء.
واليوم، هناك أكثر من 242 مدونة أخلاقية في الصحافة تختلف عبر مناطق مختلفة من العالم. وهي مدونات كتبت من خلال تفاعل مجموعات مختلفة من الناس مثل الجمهور والصحفيين أنفسهم. تعمل معظم القواعد الأخلاقية كتمثيل للمعتقدات الاقتصادية والسياسية للمجتمع الذي تمت كتابة المدونة فيه، ولكن لعلها تعطلت بالكامل في موجة الصحافة الجديدة اليوم.
سننتظر ونرى إذ لا حيلة تذكر اليوم للعاملين بقطاع الصحافة أمام الاجتياح المريع والمرعب للذكاء الاصطناعي والغباء الفردي معاً!