10 يونيو 2023
أمامة أحمد عكوش -كاتب وصحافي سوري
حينَ يكون الزَّمنُ جميلاً، بناسهِ، بتفاصيلهِ، بطيبتهِ، بعفويتهِ، بحرفيّتهِ، بحبِّهِ، بإبداعهِ، بإخلاصهِ، بفنِّهِ، بجمالٍ حقيقيٍّ دونما تزييف، جمال الرُّوح الذي تعكسه مرآة الجسد “العين” .. بعطاءٍ نابعٍ من القلب في الحياة وحين المرض وبعد الموت .. كلُّ الوجوه الأنيقة تُستَحضَرُ حال ذكرهِ، ونادراً ما يكون الحضور أخَّاذاً كما في حضورهِ .. بلكنته المميَّزة، بمخارج حروفه السَّاحرة، حين كلّ هذا.. فنحن أمام شخصيَّةٍ فريدةٍ مِن زمن أساتذة الفنِّ، نحن أمام الأرستقراطيِّ الحاضر أبداً، نحن أمام “شِرِّيرِ السِّينما الأنيق، الباشا، خاطف الأنظار، صاحب العينيّن الحادَّتيّن”، نحن في حضرة الجميل جميل راتب.
ولادة ..
عام 1926 أبصر جميل أبو بكر راتب نور الحياة في كنف عائلة أرستقراطيّة، لأبٍ مصريٍّ وأمٍّ صعيديّة من مدينة المنيا، وهي ابنة شقيق هدى شعراوي قائدة الحركة النِّسائية في مصر، حلمت عائلته بأن يعمل ابنها حين يكبر في السِّلك الدبلوماسيّ، خلافاً لرغبته الشَّخصيّة، إذ كان مقتنعاً منذ الصّغر أنه “لا ينتمي إلى هذه الطَّبقة البعيدة عن الشَّعب” حسبما أكَّد غير مَرَّةٍ، علاوة على أنَّه كان كلَّما تذكَّر طفولته يقول: “كنت خجولاً وانطوائيّاً”.
حزن!..
بدأت محاولاته في مجال التَّمثيل وهو على مقاعد الدِّراسة الأولى، ومكَّنته تلك المحاولات من التَّأكُّد أنَّ هذا المجال مصيره، إذ شاهده المخرج توجو مزراحي في بعض الأعمال المسرحيّة المدرسيّة، وأثنى على موهبته، ومن ثم دعاه في عام 1941 لتمثيل مشهد مع ماري منيب في فيلم “الفرسان الثَّلاثة”، لكنَّ عائلته أصرَّت على حذف المشهد الخاصِّ به، “حزنت وقتها كثيراً، ولكن لم أكُ قادراً على فعل شيء” بهذه الكلمات عبَّر عن تلك الحادثة. لينهي بعدها بسنوات قليلة في 19 من عمره مرحلته الدراسيّة التَّوجيهيّة، واختار له أهله الدُّخول إلى مدرسة الحقوق الفرنسيّة، لبَّى رغبة أهله، وسعى في ذات الوقت لأن يحافظ على حلمه، عبر المشاركة في المسرح الجامعيّ، ليتكلَّل ذلك بأن حصد جائزة الممثل الأوّل، وأحسن ممثل على مستوى المدارس المصريّة والأجنبيّة في مصر. وبعد تجاوزه السَّنة الأولى، سافر إلى فرنسا بمنحة لدراسة “السلك السِّياسيّ”.
أنا الشّرق ..
بعد فترة قصيرة من وصوله إلى فرنسا، عُرض عليّه المشاركة في بطولة الفيلم المصريّ “أنا الشّرق” عام 1946 رفقة الممثّلة الفرنسيّة كلود جودار، مع نخبة من نجوم مصر، من أمثال (جورج أبيض، حسين رياض، توفيق الدّقن)، فلبَّى الدَّعوة، لتكون هذه المشاركة التَّأريخ الحقيقيّ الأوّل في شرائط السِّينما الموقّع عليّها اسم جميل راتب. كما تعرَّف في ذات الفترة بباريس على الرِّوائيّ والكاتب المسرحيّ آندريه جِيدْ في عرض “أوديب ملكاً”، لينصحه بدراسة المسرح في فرنسا، فقبل النَّصيحة. ومنها.. من مدينة النُّور، غيَّر خطَّ سيره، وبدأ بصقل هوايته عبر الدِّراسة الأكاديميّة.
نادلاً .. حَمَّالاً !..
أوقفت منحته الدّراسية التي كانت تبلغ 300 جنيهاً، كما أن – عائلته الأرستقراطية – قطعت علاقتها به، لأنه اتّجه إلى التّمثيل وترك السّياسة، “اضطررتُ أن أعمل في مهن عديدة، عملت نادلاً، وحمّال خضراوات، ومترجماً، وكومبارس، لتأمين مصروفي الشخصيّ” هكذا عبّر عن تلك الحقبة من حياته. لتبدأ بوادر الفرج حين أتته فرصة العمل مساعد مخرج في فيلم “زيارة السّيدة العجوز” للعالمي أنطوني كوين، وهو العمل الذي مثَّله بعد سنوات على خشبة المسرح المصريّ مع سناء جميل، وشارك محمد صبحي بإخراجه.
الصُّحف الفرنسيّة!..
عاد إلى مصر مرَّةً ثانيةً عام 1951، إلَّا أنَّ عودته هذه المرَّة، كانت مع الفرقة الفرنسيَّة الكوميديّة “فرانسيز”، التي كان عضواً فيها، ليقدِّموا عروضاً متنوعةً في مصر، كما شارك في بطولة مسرحيّة “الوريث” مع ذات الفرقة في العام الذي يليه على خشبة المسرح الفرنسيّ بباريس، لتشيد به الصُّحف الفرنسيَّة، إذ نشرت إحداها: “جميل راتب في الوريث يخطف أنظار الحضور بأدائه القويّ وعينيّه الحادّتيّن”. كما شهد عام 1956 مشاركته في فيلم “ترابيز” مع برت لانكستر وتوني كرتيس وجينا لولوبريجيدا، ليعود ويشارك عام 1958 في فيلم يحمل ذات العنوان الذي ابتدأ فيه مشواره “أنا الشّرق”. وصولاً إلى مشاركته وإن كانت بدورٍ صغيرٍ، في فيلم ملأ الدّنيا وشغل النَّاس، وهو “لورنس العرب” عام 1962 رفقة العالميين عمر الشّريف، بيتر أوتول، أليك جيننيس، أنطوني كوين، خوسييه فيرير، إخراج ديفيد لين، وسيناريو دافيد بولت ومايكل ويلسون، استناداً إلى كتاب “أعمدة الحكمة السَّبعة” لتوماس إدوارد لورنس.
الانطلاقة الحقيقيّة..
موهبة جميل راتب، وملامحه الحادّة.. أهَّلاه في جلِّ أعماله أداء دورٍ مركَّبٍ وغايةٍ في الصُّعوبة، وهو دور “الشِّرير”، وإتقانه لأكثر من لغةٍ، سهَّل له لعب العديد من الأدوار العالميَّة، وهو ما دعا عام 1966 المخرج التونسيّ فريد بو غدير الطَّلب منه تأدية دور البطولة في فيلمه الروائيّ التونسيّ الفرنسيّ “صيف حَلق الوادي” من تأليف وإخراج بو غدير، وسيناريو بو غدير ونوري بو زيد. عاد إلى مصر عام 1974 وشارك في مسرحيّة “دنيا البيانولا” إخراج كرم مطاوع، وفي العام الذي يليه رشَّحه صلاح أبو سيف لدور بطولة من إخراجه في فيلم “الكدّاب”، تأليف صالح مرسي، شاركه البطولة محمود ياسين، وميرفت أمين، ومديحة كامل، وشويكار، وسمير غانم، وفي ذات العام، حلَّ مع محمود ياسين وسعاد حسني بفيلم “على من نطلق الرَّصاص”، إخراج كمال الشيخ، وكتابة رأفت الميهي، لتكون هذه الأعمال الانطلاقة الفنيّة الحقيقيّة لراتب في مصر.
أم كلثوم التَّمثيل!..
ومن الأفلام التي قدَّمها في الفترة بين عامي 1976 و1980 (سنة أولى حبّ، بيت بلا حنان، وجهاً لوجه، كفاني يا قلب، امرأة في دمي، شفيقة ومتولي، حكاية وراء كلّ باب، خائفة من شيء ما، لا عزاء للسيدات)، وهو الفيلم الذي قال فيه: “دوري في لا عزاء للسّيدات عام 1979، من إخراج هنري بركات، ليس من أهم الأدوار التي جسدتّها في حياتي، ولكنّه من أهم محطّات حياتي، السّبب في ذلك أنني وقفت فيه أمام “أم كلثوم التّمثيل” فاتن حمامة”. وأيضاً.. نقطة التَّحول الرَّئيسة في حياته السِّينمائيّة كاملةً، كانت ضمن هذه الفترة، وتحديدا عام 1978 في فيلم “الصُّعود إلى الهاوية” إخراج كمال الشّيخ، وسيناريو صالح مرسي وماهر عبد الحميد، الذي لعب فيه راتب دور شخصية “أدمون”، وهو فيلم عن قصّة حقيقيّة في عالم الجاسوسيّة، من أبطاله (مديحة كامل، ومحمود ياسين)، وهو العمل الذي أجمع عليّه النُّقاد، أنَّه من أهمّ ما قدَّمه راتب في مسيرته الفنيّة، إضافةً إلى كونه مكَّنه الحصول على عديد الجوائز، على رأسها جائزة الدولة كأحسن دور ثاني.
صوت!..
في الثمانينات.. قدَّم عشرات الأعمال السِّينمائيّة أيضاً، منها (ضيف على العشاء، شعبان تحت الصّفر، مسافر بلا طريق، العرّافة، إنّهم يسرقون الأرانب، كيدهنّ عظيم، وحوش في الميناء، حبّ في الزّنزانة، وداعاً بونابرت، ابنتي والذّئاب، البريء، البداية، أحضان الخوف، قاهر الزّمن، رجل بسبع أرواح، الدّرجة الثّالثة، ابتزاز)، كما أنَّ طبقات صوته المميزة أهلته أداء صوت الضّابط الإيطالي “توميلي” في النّسخة المدبلجة إلى العربيّة من الفيلم العالمي “عمر المختار”.
برعَ هناك .. أبدعَ هنا! ..
وفي ذات العقد، تحديداً عام 1985 شارك في بطولة فيلم “الكيف” إخراج علي عبد الخالق، وكتابة محمود أبو زيد، وبطولة يحيى الفخراني ومحمود عبد العزيز ونورا، لعب فيه راتب دور تاجر المخدّرات “سليم البهظ – البهظ بيه” الذي اعتبر واحداً من أهم أعماله، علاوةً على كونه من أبرز الأعمال في تاريخ السِّينما العربيّة، وأقربها لقلوب الجماهير. قال فيه النُّقاد: “جميل راتب في الكيف، جعلنا في حيرة بين أدواره السّابقة، خاصّة مع “في الصّعود إلى الهاوية”، وفي ذهول، لروعة إتقانه الدَّور، كما برع هناك، أبدع هنا”، فيما قال راتب: “حين عُرض عليَّ العمل، لم أقتنع بالدّور، استغربت اختياري، الشّخصية لا تشبهني أبداً، وسألت المخرج والمؤلف، لم أنا!؟ فألحّا عليَّ كي أقبله، قررت خوض التَّجربة، استمتعت كثيراً، نجحت به، وحصدتُّ جائزة عن دوري فيه”. ليقدّم بعدها عدداً آخر من الأفلام، منها (الأغبياء الثلاثة، شيش خان، بنت الباشا الوزير، سيّدة القاهرة، سباق مع الزّمن، checkmate، طيور الظّلام، عفاريت الإسفلت، السّاحر، حفار البحر، من نظرة عين، الأوّلة في الغرام، جنينة الأسماك). وليختم مشاركاته السّينمائية عام 2012 في الفيلم الفرنسيّ “سحابة في كوب ماء”.
سينما .. مسرح
عبَّر صاحب التَّاريخ السِّينمائي الحافل، الذي شارك في 67 فيلماً مصريّاً، وكان بطلاً في 15 عملاً منها، إضافةً إلى مشاركته في 25 فيلماً أجنبيّاً وعالميّاً، منها مشاركته ببطولة 7 أفلام فرنسيّة، عبَّر عن أحبِّ أعماله السِّينمائية على قلبه في آخر إطلالاته الصُّحفية بالقول:”من أحبِّ أعمالي إليَّ (البداية، الصّعود إلى الهاوية، شيش خان، الكيف)”، وهي أفلام حصدت العديد من الجوائز. في جعبته المسرحيّة الكثير من الأعمال، منها (عائلة ونيس، اليهوديّ التّائه)، علاوة على خوضه تجربة الإخراج المسرحيّ في (الأستاذ، زيارة السّيدة العجوز، شهرزاد).
الشَّاشة الصَّغيرة ..
وفي جعبته التلفزيونية قرابة ال90 عملاً، من أهمِّها مسلسلة “الرّاية البيضا” عام 1988 تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل، حيث قال راتب عنه: “من أنجح أعمالي، شخصية د. مفيد أبوالغار كانت قريبة منِّي جداً”، والبطولة بجزأي “زيزينيا” 1997 و2000 مع يحيى الفخراني، إخراج جمال عبد الحميد وتأليف أسامة أنور عكاشة، حيث حمل الجزء الأول عنوان “الوليّ والخواجة”، والثَّاني “الليل والفنار”. إضافة إلى مشاركته في بطولة الأجزاء الثَّمانية من “ونيس” إخراج أحمد بدر الدّين ومحمد صبحي، وتأليف مهدي يوسف ومحمد صبحي، الذي صُوِّرَ أوَّل جزء منه عام 1994 وآخرها عام 2012، وأدَّى راتب فيه دور “والد ونيس”. ثمّ عاد في رمضان 2014، وشارك في مسلسلة من إخراج خالد الحجر، وسيناريو علاء حسن وخالد الحجر، بعنوان “شمس” من بطولة ليلى علوي، التي كانت تقول في كل لقاءاتها: “أشارك جميل راتب في بطولة شمس”.
حبّ!..
تزوَّج في حياته مرَّةً واحدةً.. من سيّدة فرنسيّة “مونيكا مونتيفير” كانت تعمل في التّمثيل، إلّا أنّها اعتزلته، وتفرّغت للعمل كمديرة إنتاج، ثمّ منتجة منفّذة، فمديرة مسرح الشانزليزيه، وكان كلّما ذهب إلى باريس يقوم بزيارتها بعد أن انفصلا، ولم ينجبا أطفالاً، إلا أنَّه ردّد في أكثر من مناسبة أنَّه “يحترمها جدّاً، وأنَّها – رفقة الفنّ – حبّ حياته”.
جوائز .. ألقاب!..
حصد خلال مسيرته العديد من التكريمات والجوائز المصريّة والعربيّة والعالميّة، منها تكريم مهرجان القاهرة السّينمائي عام 2005، وتم اختيار 3 أفلام شارك فيهم، ضمن أفضل 100 فيلم في ذاكرة السّينما المصريّة، حسب استفتاء النّقاد عام 1996، وهي (على من نطلق الرّصاص، الصّعود إلى الهاوية، البريء)، كما أُطلقت عليه العديد من الألقاب، منها (الجميل، الشّرير، الأنيق، الباشا، العين الحادّة).
خريف الرَّبيع الجميل!..
نال المرض من جسد راتب، ولكنّه لم ينل من روحه، حيث “أقعده”، وأفقده واحدةً من أهمّ أدواته “الصّوت”، وحاول إبعاده عن المشهد إلّا أنّه لم يقدر، فها هو الأنيق قبل شهور قليلة من وفاته يتحدَّى المرض، ويُسجِّل حضوراً في مسلسلة “بالحجم العائلي” رفقة يحيى الفخراني وميرفت أمين، في رمضان 2018.
طالب بعدم إقامة عزاء له حسب ابنه الروحي/مدير أعماله هاني التّهامي، ونقل عنه القول: “الموت راحة لي، مقارنة بمشاكل الحياة الأخرى، لا أخشى الموت، ولكنّي أخاف العذاب، أفضِّل أن أُتَوَفَّى دون عذاب، الموت مصيرنا كلّنا”، كما أوصى بالتبّرع بثروته “البالغة نحو 18 مليون جنيه” لصالح مستشفى سرطان الأطفال في مصر.
الإنسان جميل راتب الذي بكى على كتفه العالمي أنطوني كوين بعد اغتيال جون كيندي، ها هو يُبكي العالم، عقب إعلان التّهامي وفاة الباشا في الـ19 من أيلول/سبتمبر 2018، ها هي تسقط ورقة “الرّبيع الجميل” في الخريف عن 92 عاماً.