أنس الغوري – كاتب وشاعر وري
إلى أبي الذي لن يقرأ كلماتي…
أبي؛ إنّ ما هو مُريح في الكتابة لك أنّها لا تستوجب نظمًا محددًا، ولا عبارات منمقة، ولا استعارات، ولا أيّ قيود تجعل منها عبئًا. والأكثر طمأنينة أنّك لن تقرأ الكلمات التي لا أدري لما أكتبها وأتركها في برزخٍ قائم بيننا. هكذا، ببساطة، أكتب لك يا صديق الصّمت. كلّ ما في الأمر أن أخلع أسمال القلب التي تستر جروحه التي تنزُّ و تتقيّح، أتركها تسيل كيفما شاءت دون مراعاة للشكل الذي ستؤول له وإن كان التشوّه.
الكثير من الكلمات تزوم داخلي ولا تتجاوز حنجرتي التي تسكنها الغربان. تعلم جيدًا أنّني لم أتعلّم بعد لغة هذا العالم، كلّ مرة أتلعثم وأنا أحاول التهجئة ولا ينتج عن محاولاتي إلا سوء الفهم وغرز أوتاد اغترابي في صحراء الوجود. أبي، أُدرك أنّ الأيام كلّها تساوت لديك -وهذا يشقيني أكثر- مِن حَبَسك شَلَلُك منذ سنوات لجوئنا الأولى، لكن، بالنسبة لي فيما يتعلق بك وبوالدتي وباقي أفراد عائلتي فإنّه ثمّة باندول قديم بصوته الصاخب يذكرني.
مضى ستة أشهر وثمانية أيام وأنت لم تر إلّا الجدران الرطبة التي تعلوها العفونة، ووجوه العائلة الموسومة بالألم والحرمان، وسماع ذات الأصوات التي تصدح بالشكوى والشجار. اعذرني! أعلم أن كرسيك غزاه الصّدأ.
إنّني لا أفتأ أتساءل بما يشبه الصّراخ المبتور لسانه: لِما كلّ ما هممت بلوي عنق المسافة كي آتيك باكرًا لأخرجك ونتشارك كأس شاي كعادتنا، تبرز التزامات منسعرة لا طاقة لي بها تباعد بيننا أكثر! إنّها صغيرة وتافهة بعيون غيري، لكنّها لنا جميعًا بصق خارج الحياة. ثلاثة عشر ساعة عمل وأنا لا أستطيع أن أوفّر لكم رغيف حياة! بعيدًا عنك يا أبي، أقول: إن كان هناك موتٌ سيأتي، فليكن مطهرًا ومخلصًا. وحدك تعلم، لذا، لا تطلب شيئًا لا بإشارة أو إيماءة.
لسان نظراتك الكسيرة يبوح لي في الصباحات والمساءات، ويفضح أسباب حزنك التي أجاهد لتوريتها عنك، والأخرى التي ليس لي بها صلة. أرى اشتغال الغضب في عيناك حينما يطلبون منّي احتياجٍ ما، اعذرهم يا أبي واغفر لهم؛ هذا حقهم عليّ. لا تقلق، أنا بارع في التسويف والتخدير إزاء الوعود. وحدي من هو ذليلٌ ومُهان.
ألجم آلامي بعيدًا عنكم ومع هذا أُلام، حتّام؟! أوتدري يا حبل سُرّتي أن أهنأ أوقاتي هي حينما أخيط الشوارع الخالية مشيًا في ذهابي للعمل وإيابي منه! في هذا الوقت، أتسلّق حبال صوتي وأصرخ وأشتم وألعن وأناجي وأنادي الحلم وأغويه. أترك آلامي تفرُّ من زريبة جسدي النحيل والخَرِب. في غياب الحياة والوطن والإنسان التحفت الصّمت.
أيضًا، حتّى لا يُفتضح عُري هامش عيشنا أكثر، أصمت. بذات العطش القديم أنتظر، ويطول انتظاري لِسُحب الرحمة. مَا مِن ربيع! الجفاف والتصحّر يتمددان، وأنت يا أبي ووالدتي تصعِّدان الدعاء وتزفران الآه. بينما أنا لا أجرؤ على النّداء خشية تكسّر صوتي الذي تقصّف. يخفت البكاء ومعه النبض، يتسمّر السؤال، ينتصب كاعتراضٍ على العمَاء.
أبي، أتعذّب في أتون التساؤلات اللامحدودة. قبل أن أُسقِط القلم الذي أوشك هو الآخر على النّفاد من يدي، أريد أن أوضح لك شيء أخير. علاقتي مع الكتب ليست استعاضة عن التعليم الذي حرمني منه السجن وظروفٍ سافرة أخرى بعدها، لا، هي حيواتٌ أعيشها بقوة الشعور بعيدًا عن أيادٍ أخذت دور المقصلة، تغتال الحبّ والجمال وكلّ ما هو إنسانيٌّ خالص. أشكر لك عدم اعتراضك على اقتنائها مثل بقية الأسرة التي أغفر لها تشكيها من الكتب. أقبّل يديك وجبينك وعينيك الناطقتين وأغتسل بقلبك السماويّ. انتظرني يا أبي، سآتيك بعنادٍ يصيّر ما هو قائمٌ بصلافة ويحول لشقّ دربًا للسكينة، ونتشارك كأس الشاي.
