12يونيو 2023
سامح محجوب – القاهرة
ينتمي لجيل شعري قيل عنه فى العراق (الجيل الضائع) الجيل الذي عايش الجوهري والسياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري والبياتي وورث مصائرهم ومساراتهم فى الاعتقال والمنفى والاغتراب داخل الوطن وخارجه لكنه لم يرث قناعاتهم فى الكتابة والثقافة ولم يرث بالتبعية ألقابهم فى الريادة والتجديد.
ولد ببلدة (أبي الخصيب) بالبصرة جنوب العراق عام 1934 وتخرج فى دار المعلمين العليا فى بداية الستينيات وعمل بالتدريس والصحافة ليضطر بعد ذلك لترك العراق نظرًا لمواقفه السياسية والحزبية مما تعاقب على العراق من أنظمة وسياسية
تنقل فى بداية الأمر بين عدة مدن عربية وأوروبية ليستقر به المقام فى لندن التي عاش بها سنواته الثلاثين الأخيرة ورحل بها فى مثل هذا اليوم من عام 2021 تاركًا خلفه غبارًا كثيفًا لم يهدأ دخانه حتى هذه اللحظة .. فهناك من يرى أننا أمام شاعر ومثقف ومترجم ضخم ترك منتجًا إبداعيًا كبيرًا ومتنوعًا ونوعيًا توزع بين الشعر والترجمة والرواية والقصة والنقد والكتب الفكرية ،،
وهناك من يرى أننا أمام متمرد تاريخي سخر من نفسه ومن الجميع وانقلب على ذاته عشرات المرات وملأ السبعة والثمانين عامًا التي عاشها صخبًا وجدلًا حتى أنه لم يترك فرصة لمنتجه الإبداعي أن يرى تحت هذا الركام الهائل من العداوة والخصومات الفكرية والسياسية ..
الشاعر المبدع والمثقف “سعدي يوسف” مع الكاتب الصحفي المغربي الكبير “حسن نجمي“
حول الشيوعي الأخير أو الأخضر بن يوسف كما كان يحلو لسعدي يوسف أن يطلق على نفسه أو يلقّب كانت هذه الدردشة مع الشاعر والكاتب الصحفي المغربي الكبير حسن نجمي الذي طرحنا عليه هذه التساؤلات بمناسبة مرور عامين على رحيل سعدي يوسف :
– كمعظم شعراء العراق عانى سعدي يوسف من الإبعاد القسري عن وطنه، كما عانى من العصف الإثني والأيدلوجي مما ورطه مرات عديدة فى كثير من المواقف والآراء فما نصيب الفني والأيدلوجي فى تجربة سعدي ؟!
– الآن وبعد عامين من رحيله فى مثل هذا اليوم
ماذا تبقّى من سعدي ؟
الشاعر ؟
أم المثقف المتناقص الحاد اللاذع ؟!
أم الإنسان المثير للجدل ؟
– لسعدي نشاط واسع كمترجم وكاتب صحفي ومثقف
كيف ترى تجربته فى الترجمة ؟
وكانت إجابات نجمي على هذا النحو :
– إذا أزحتُ قليلا أطروحة رولان بارت عن الكتابة البيضا، أي الكتابة الأدبية الصافية، الخالية من أي ظل إيديولوجي (وهل ذلك ممكن؟)، أظن أن الشحنة الإنسانية وفيض التجربة الشخصية كانا أكثر حضورا ووطأة في شعر سعدي يوسف.
“حسن نجمي: ليس سعدي من يمكن لناقد أن يعلّمه الحدود والتخوم بين الشعري والإيديولوجي بل السياسي أيضا“.
وليس سعدي من يمكن لناقد أن يعلّمه الحدود والتخوم بين الشعري والإيديولوجي بل السياسي أيضا. لقد كان يدرك قيمة النص الشعري البلوري الخالص، مثلما كان مدركا تماما لمعنى أن ينخرط في تارخه، ويتشابك مع أحداث بلاده وشعبه.
وهناك تجارب شعرية كونية عرفها سعدي أكثر من غيره، وترجم بعضها إلى العربية، مثلت نماذج ناجحة لجدلية الشعري والسياسي. أفكر في ريتسوس، في أونغاريتي، وحتى في والت ويتمن الذي تخترق كتابته الشعرية حساسية الموقف السياسي العميق.
“على الذين لم يوافقوا على بعض آراء ومواقف وغضبات سعدي السياسية، ألا يتخذوا من خلافهم معه خلافا مع قيمته كشاعر عراقي عربي كبير“.
هذه مناسبة لألح على ضرورة الفصل المنهجي والإجرائي بين تقييم الموقف السياسي وقراءة الكتابة الشعرية. بمعنى أن على الذين لم يوافقوا على بعض آراء ومواقف وغضبات سعدي السياسية، ألا يتخذوا من خلافهم معه خلافا مع قيمته كشاعر عراقي عربي كبير .
– في نظري، سيبقى من سعدي يوسف الكثير من شعره، وأثره ، ولمسته في الكتابة الشعرية.
“سيبقى من “سعدي يوسف” الكثير من شعره، وأثره ، ولمسته في الكتابة الشعرية“.
كانت له لغة شعرية لاتعثر عليها لدى غيره. وقد استفاد من النظر الماركسي إلى اللغة، أي تعامل مادي مع اللغة، مع “اللغة المادية” كما وصفها مرة، والتي استعملها مادة للكتابة.
كانت له نمذجته الأسلوبية الخاصة، لكم تعلم منها الكثير من الشعراء من مختلف الأجيال،فقد تخلى تماما عن النعت ،وعن الحال، واستعمل أساسا الاسم الجامد والفعل. وبدلا من النعت كان يستعمل الاسم صفة (بدلا من : المرأة الذهبية- مثلا- يستعمل المرأة الذهب !).
“سيبقى من “سعدي” تاريخ نضاله ومحنه واختبارات حريته وعناده“.
“سيبقى سعدي هو وقلة من الشعراء العرب في ذاكرتنا الشعرية والتاريخ الأدبي العربي الحي”.
ونعرف أيضا استعماله المكثف لتقنية التنقيط دليلا على الصمت والغياب والحذف وتفادي الرقباء.
وهناك أبعاد أخرى في كتابة سعدي يوسف: حضور اليومي في شعره، كثافة المكان في قصيدته…إلخ.
ويبقى من سعدي تاريخ نضاله ومحنه واختبارات حريته وعناده وعدم استسلامه ونزاهة موقفه ورؤيته.
سعدي سيبقى ،هو وقلة من الشعراء العرب في ذاكرتنا الشعرية ،وفي التاريخ الأدبي العربي الحي.
– كان الشاعر سعدي يوسف كبيرا في كتابة الشعر، وفي ترجمة الشعر الإنساني إلى العربية.
لم يكن ينقل الشعر العالمي حرفيا ، وإنما كان يوطِّن الشعر الذي يترجمه في روح اللغة العربية.
“لم يكن “سعدي” ينقل الشعر العالمي حرفيا، وإنما كان يوطِّن الشعر الذي يترجمه في روح اللغة العربية“.
كان يضمن للشاعر الذي يترجمه نوعًا من التبيئة وحسن الجوار. وبفضله عرفت الأجيال الشعرية الجديدة ريتسوس وأونغاريتي على سبيل المثال.
باختصار، في سعدي كان يمكنك أن تقرأه وتتلذذ في شعره بخمرة الكون، مثلما تجد فيه ظلالا من الذين كان يحبهم، امرؤ القيس، وسركون ، ومحمود درويش، والمهدي الجواهري، وهادي العلوي، وكارل ماركس …،وليس بمعنى المحاكاة أو الاستنساخ أو ماشابه، وإنما من باب أن الذين نحبهم لانضعهم “بين ظفرين” !
“باختصار، في سعدي كان يمكنك أن تقرأه وتتلذذ في شعره بخمرة الكون“.