مما لا شك فيه أن الثقافة والتعليم هما حاجة ملّحة للإنسان في عصرنا الراهن بعلومه الدقيقة وتخصصاته المرهقة، إذ ما عاد يكفي أن يكون الفرد منا مهندساً مثلاً، بل صار التخصص الدقيق سمة العصر واستمرارية المهن.
فاليوم تجد عشرات التخصصات التي لم تكن موجودة سابقاً، في الطب والهندسة والعلوم وكل القطاعات، وبات الاتجاه نحو التدريب والخبرات العملية أكثر من ذي قبل بمراحل باتت تهدد كبرى الجامعات بالإغلاق والخسائر.
ومع سرعة اليوم وانفتاح العالم على بعضه البعض، صرنا نرى ورشات عمل في كل شيء، تعلمّنا كل شيء، سواء على الانترنت أو في المعاهد التدريبية التي تعد ورش العمل والدورات المكثفة في كل القطاعات. ومن ثم جاء الذكاء الاصطناعي ليكمل المهمة ويكتب عنا روايات وقصائد وبحوث الدكتوراة وإن كانت في تخصص جراحة الأعصاب!
ماذا بعد؟ وكيف سننجو بمهننا وثقافاتنا المكتسبة وأدائنا الوظيفي؟ إنه أمرٌ مربك حقاً.
إلى الآن ما زالت الفردانية والموهبة تقود الموقف، إن الإصرار على الفردانية اليوم وتنمية القدرات والمواهب وخصوصيتها، ستحمل كلا منا إلى الضفة الأخرى دون أدنى شك، لم تعد اللغات حاجزاً ولا العلوم ولا المعلومات الهامشية التي أصبحت مكشوفة في البيانات المفتوحة على الفضاء الذي نعيش فيه. إلا أن الموهبة هي السر الفردي التي لا تعطي سرها إلا لصاحبها.
إلا أن ما سبق هو كلام خطير، إذ امتلأ الفضاء بالعلوم الزائفة والمعلومات الخاطئة والباحثين عن التريند والشهرة في زحمة الحياة، فتجد مثلاً عنواناً كهذا: توقف عن أكل الليمون لأنه يسبب السرطان! وهو ما سيحتم على الأغلبية أن يطلعوا على محتوى المقال، فيصل المقال بظرف يوم إلى ملايين المشاهدات، ويدفع صاحب المقال بمعلومات ملفقة ومراكز بحوث وهمية وأسماء لا وجود لها تدعيماً لفكرته الزائفة هذه. وهنا هو الخطر الحقيقي.
هنالك نظرية في الصحافة تقول: إن قالت لك أمّك أنها تحبّك، عليك أن تتحقق من ذلك!
هذا موجود في كل العلوم من طب واجتماع وأدب واقتصاد وغير ذلك. ما الحل إذاً؟
إنه التحقّق من أية معلومة تصل إلينا، والتحقق جزء محوري وأساسي في عالم الثقافة والصحافة معاً. إذ لا يمكن لنا أن نصدق كل قول من كل شخص. بل هنالك نظرية في الصحافة تقول: إن قالت لك أمّك أنها تحبّك، عليك أن تتحقق من ذلك!
إن التحقّق هنا هو أمانة مهنية لا يمتلكها اللاهثون وراء الشهرة والمشاهدات والتميز ولو على حساب أمةٍ من الأمم، وتلك الأكاذيب ليست جديدة إنما أصبحت اليوم أخطر لأن التحقق منها ازداد صعوبة.
في أمريكا عام 1919، ابتكر الدكتور ويليام فريدريك كوخ دواءً ادعى أنه يمكن أن يعالج “جميع الأمراض البشرية، بما في ذلك السل والسرطان”، وقد حقق نجاحاً تجارياً مذهلاً، حيث شفي الكثير من المرضى تحت وهم الشفاء ودافعه النفسي، إلا أنه وفي عام 1948، عندما اختبر الأطباء العقار وجدوا عقار الجليوكسيد، الدواء المعني نوع من الماء المقطر مع زيادة طفيفة بمادة الجليوكسيد التي تسببت بموت الكثير بالسرطان وانتقاله من مراحل عادية إلى مراحل خطرة.
وعلى الرغم من أن إدارة الغذاء والدواء كانت صريحة في وصفها الطبيب كوخ بالنصاب، إلا أنها لم تتمكن من العثور على أدلة كافية لتوجيه الاتهامات إليه. وانتهى الأمر بهذا الطبيب في ريو دي جانيرو يعيش بأمواله.
هذا التزوير نجده في كل شيء، تعلّم التركية في خمسة أيام، كيف تصبح ثرياً في عام، رسائل الأدباء الميتين دون أصل لها، وصية الرياضيين لأصدقائهم وذويهم وغير هذا مما يمنح هؤلاء النصابين المزيد من الشهرة ولو على حساب موت الآخرين.