26 يونيو 2023
أمامة أحمد عكوش
بازلتُ السّويداء في جيناتهِ، ومِنْ تُرابها هواه .. صوتُ ربابةِ والدهِ في أذنيه، عذوبةٌ وشجنٌ وآه .. العتابا والميجانا والشُّروقي، أبجدياتُ مَغْنَاه .. يحمل التُّراث أيّنما حَلّ، يأبى نَقْلَ سواه .. الأصالة عنوانه، وهي مُبتغاه .. ينبض قلبه بسوريته، وغيرها لا تتنفّس رئتاه. هو مطرب الرّجولة، واللون الجديد في الغناء العربي .. صوت القوّة والجمال في آن .. الظَّاهرة الفنية غير المتكرّرة .. العاشق الذي يتماهى مع عشقه الغناء .. الشّهب في زمن العمالقة .. هو الذي اخترق الأوساط الفنية العربية جمعاء، دون أن يُضَحِّي بشيءٍ من أصالته، هو السّفير الأوّل للأغنية السّورية، السّوري فهد بلان.
ربابة ..
ولد فهد بلان في آذار من عام 1933 في محافظة السّويداء السّورية، أمّه هنديّة زهر الدّين وأبوه حمّود بلّان، إخوته (هايل ونسيب وعبد السلام من أبيه، وغالب من أمّه وأبيه)، أحبَّ الموسيقى منذ طفولته في قرية “مَلَح”، إذ كان يُصغي لربابة والده – الذي كان يعمل شرطياً – وهو يعزف عليها، “كنت أحسُّ بسعادة عندما يعزف أبي على ربابته، خاصَّة حين كان يأخذني معه إلى الأرض، ويعمل في الزِّراعة، كلّما رغب باستراحة، يكون صوت الرَّبابة رفيقه” بهذه الكلمات عبَّر في أحد لقاءاته، عن شغفه بموسيقى “ربابة أبيه”. ظروف الحياة الصّعبة اضطّرته إلى مساعدة أبيه في زراعة الأرض، وكان يغنِّي الموروث بصوته الجهور “العتابا والميجانا والشُّروقي” أثناء عمله في الزِّراعة، ويطرب على صوته أقاربه والمزارعين. كما اضطّر بعد أن انفصل والداه، إلى المغادرة مع أمّه وأخيه غالب إلى الأردن حيث تقطن خالته، على ظهر الجِمَال “اشترط عليهم صاحب الجمال أن يقلّهم دون آجار شريطة أن يغنّي فهد طوال الطّريق على ظهر الجمل، وهو ما كان” حسبما قال فهد وهو يستحضر سنوات طفولته حين مرّة. بعد سنوات قليلة عادوا إلى سورية، وعمل بلان في مهن أخرى غير الزِّراعة ليساعد أمّه في سدِّ متطلبات الحياة، منها (مرافق سائق باص من وإلى دمشق)، إلى أن تعلّم العزف على الرَّبابة وصار يغنّي في الحفلات والأعراس، “رغم غنائه في الحفلات والأعراس مقابل مبالغ قليلة، إلا أنَّها كانت فرصة لتدريب صوته، وصقل موهبته، وكسر جدار الخوف من الجمهور وهو في سنٍّ صغير” هذا ما قاله الباحث الموسيقي “معين العماطوري” عن تلك الحقبة من حياة ابن الجبل فهد بلان. ومن ثمّ التحق ابن السويداء بالخدمة العسكرية في عام 1951.
آه يا قليبي ..
تقدَّم بعدها.. تحديداً في عام 1957 إلى امتحان القبول في إذاعة دمشق، عقب إعلانها عن حاجتها لمرددين في جوقة الإذاعة، فشل في المرّة الأولى، إذ غنّى أغاني طربية، بينما نجح في المرّة الثّانية، حيث اختار أغنية شعبية تراثية من تراث منطقته عنوانها “هين ضرب السّيف”، التي ناسبت صوته الجبلي، ليتمّ اختياره كعضو في جوقة الإذاعة، التي كان يترأسها الموسيقي الرّاحل عبد الفتّاح سكّر. كما بدأ نجم الشَّاب بلان بالصُّعود، مع أولى أغانيه عام 1958 بعنوان “يا بطل الأحرار” احتفاءً بالوحدة بين سورية ومصر، والتي كتبها راشد الشّيخ ولحّنها سهيل عرفة، لتعقبها أغنية “مشغول بحبك”، ثم أغنية “لعينيك يا حرية” من ألحان عبد الفتاح سكّر، إلَّا أنَّ الأغنية التي وصل معها إلى شهرة كبيرة عَبْرَ طَرْقِ قلوب الجماهير السُّورية والعربية كانت “آه يا قليبي” التي غنّاها مع المطربة سحر عام 1960، ولحّنها لهما الفنان الرّاحل شاكر بريخان. ومن ثم عاد بلان ليتعاون مجدداً مع الملحن سكّر، وليشكلا علامةً فارقةً على امتداد مساحة التّجربة الفنية لكليهما، وليكون العمل المشترك عبر أغنية “لركب حدك يالموتور” التي مثَّلت حينها اتجاهاً جديداً في الأغنية الشّعبية السّورية، وكانت فاتحة لأغانٍ لا تنسى مثل (ألفين سلام، وتحت التّفاحة، وجس الطّبيب، واشرح لها، ويا سالمة، ويا بنات المكلا).
لبنان ..
مرحلة جديدة بانتظار ابن الجبل، وذلك حين دعته “صباح الشّحرورة” لإحياء حفلة ساهرة في بيتها في لبنان، ودعاه على إثرها الإعلامي والفنّان اللبناني نجيب حنكش إلى حوار إذاعي في إذاعة لبنان عام 1963 عبر برنامجه “ألوان”، وأطلق عليه أثناء الحوار لقب “مطرب الرجولة”، ليغدو هذا اللقب ملتصقاً به حتّى آخر أيام حياته، وحتّى كلّ لحظات ذكراه، ليغنّي بعدها واحدة من أشهر أغانيه “بالأمس كانت تهوى وجودي” من كلمات عمر الحلبي وألحان سهيل عرفة. كما حملت هذه الفترة في جعبتها لقاءه بفنان الأجيال محمد عبد الوهاب أكثر من مرّة، الذي أعجب بصوته، وطلب منه تجريب ألوان أخرى من الغناء غير الطقاطيق والأغاني الشّعبية، فاستجاب لرغبة عبد الوهاب، وغنّى “يا ساحر العينين يا أكحل” لحّنها له أيضاً عبد الفتاح سكّر، ورسّخ تمكّنه من لونه، عبر تعاونه مع الشّاعر الغنائي عمر الحلبي والملحن سكّر، ليشكِّلوا ثلاثياً حقّق له إبداعَ لونٍ فريدٍ في الغناء.
مصر ..
ها هي موهبة وإرادة واجتهاد مطرب الرّجولة، يحقّقون له نعمة إثبات الذّات في لبنان كما في سورية، وها هو صيته يؤهله طَرْقَ أبواب مصر، إذ تلقّى دعوة من القائمين على مهرجان “أضواء المدينة” السّنوي في القاهرة للمشاركة كضيف شرف، ليشدّ الرِّحال إلى المحطَّة الجديدة من محطَّات حياته، إلى “مصر”، ويطرب الجمهور المصري بأغانٍ جديدةٍ على مسامعهم، وليحقِّق نجاحاً كبيراً بالوقوف في مصافِّ كبار المغنين والمطربين المصريين، أمثال (عبد الحليم حافظ، ومحمد عبد المطلب، ومحمد رشدي)، وليقدّمه العندليب في واحدة من حفلاته بالقول: “أقدِّم لكم النّهارده صديقي الفنان الكبير فهد بلان”. إضافة إلى أن شهرته بلغت أوجها في مصر – التي أقام فيها تسع سنوات – عندما غنّى رائعة الشّيخ زكريا أحمد “يا صلاة الزّين”، علاوةً على تعاونه مع كبار الملحنين العرب، أمثال الموسيقار فريد الأطرش، الذي لحّن له واحدة من أشهر أغانيه وهي “ما أقدرش على كده”، والموسيقار سيد مكّاوي الذي لحّن له موشّح “مال واحتجب” من كلمات أمير الشّعراء أحمد شوقي، ممّا دعا النّقاد المصريين لوصفه بـ “الشّهب في زمن العمالقة”.
شاشة ..
لم يتوقّف عطاء بلان عند الغناء فحسب، بل أسنِد له دور البطولة في 15 فيلماً سينمائياً خلال مدّة لم تتجاوز الـ “سبعة أعوام”، بداية بفيلم “عقد اللولو”، الذي قدّمه إلى جانب دريد لحام ونهاد قلعي، ومن ثمّ عدد من الأفلام منها (ليالي الشّرق، وحبيبة الكل، وأفراح الشّباب)، وانتهاءً بفيلم “لسنا ملائكة”، وشارك معه في هذه المسيرة السّينمائية مطربون وممثلون عرب، أمثال (وديع الصّافي، وصباح، ونجاح سلام، وطروب، ونصري شمس الدّين، وسميرة توفيق)، كما مثَّل في المسلسلات منها (أنا أنت، وعجيب أفندي).
الوطن
وفي عام 1973 قال له الرّئيس حافظ الأسد: “إنَّ بلدك في حاجة إليك يا فهد، ويجب أن تغنّي لها، فهي نقطة انطلاقك في الأصل، يجب أن تكون مركز نجوميتك أيضاً”، وأثناء حرب تشرين التّحريرية قرّر مطرب الرّجولة أن يقضي ما تبقّى من حياته في وطنه الأم “سورية”، وأن يشارك في الحرب عبر صوته، إذ بثّت له إذاعة دمشق “تسعين أغنية وطنية في تسعين يوماً” من تلحين الرّاحلين سمير حلمي وعبد الفتاح سكّر، كما حملت ذات الفترة واحدة من أشهر أغانية “من يوم ولدنا يا بلدنا” من ألحان سهيل عرفة، إضافة إلى موال “من بلدي”.
أوسمة ..
حصد عدداً من الأوسمة منها وسام الفنون من الدّرجة الأولى في سورية، ووسام الاستحقاق من ليبيا، ووسام الاستحقاق من المغرب. ومنذ أواخر السّبعينيات عاد بلان بشكل نهائي ليقضي أغلب وقته في السّويداء، وعمل على تأسيس فرع لنقابة الفنّانين في المنطقة الجنوبية، وبدأ المرحلة الثّالثة والأخيرة من مسيرته الفنية حين التقى بالشّاعر والموسيقي سعدو الذّيب، الذي قدّم له واحدة من أجمل أغانيه وهي (يوماً على يوم، وسلامين، وغالي علينا يا جبل).
1000 أغنية
يشار إلى أن خزينة فهد بلان الغنائية تضمّ نحو ألف أغنية، شكّل من خلالها كينونته كظاهرة فنية يصعب تكرارها، مما دعا النّقاد لاعتباره أحد المطربين العشرة الأوائل في العالم العربي، وراح بعضهم يطلق عليه إضافة إلى “مطرب الرّجولة”، لقب “فارس الأغنية العربية”، كما اعتبر “السّفير الأول للأغنية السّورية”، و “رائد الأغنية الشّعبية” المعتمدة أشدّ الاعتماد على تراث محافظة جبل العرب الأشمّ في سويداء سورية، ولينقل معالم هذا التّراث الضّارب في جذور التّاريخ إلى أنحاء العالم، حيث قال النّقاد فيه: “لم يترك فهد بلان بلداً عربياَ من المحيط إلى الخليج، إلّا زاره، وغنّى فيه من تراثه السّوري، كما أنّه لم يكتف بالجولات التي قام بها عربياً، بل عبر المحيطات، ليلتقي بعرب المهجر في أمريكا وفنزويلا وتشيلي والأرجنتين والبرازيل وغيرها الكثير”.
أمير الرّومانسية!..
تزوّج “أمير الرّومانسية” كما كنَّ يطلقن عليه الكثير من النّساء، سبع مرّات.. الأولى نادية أبو خيال من قرية حضر، بقيا معاً تسع سنوات ولم ينجبا أبناء، والثّانية زميلته في كورس الإذاعة وفاء اليماني، تزوجا عام 1961 وأنجبا طلال ولينا، ومن ثم تزوّج السّيدة ناتاشا الرّياشي من “بيت مري”، وأنجب منها ثريّا وكانوا ينادوها “ريتا”، كما تزوّج بالممثّلة المصريّة مريم فخر الدّين، ولم ينجبا أبناء، وزوجته الخامسة سيّدة مكسيكية من أصول لبنانية سامية أبو الحسن، وأيضاً.. لم ينجبا أبناء، أمّا السّادسة فهي نجمة فرقة شوشو المسرحية الممثّلة اللبنانية آمال عفيش، وأنجبت له ابنة ميتة – رحمها الله – ، وآخر زوجاته كانت ابنة السُّويداء إسعاف سلمان حمزة، التي أنجبت له علياء وهند وإيهاب. كما جمعت أمير الرّومانسية قصّة صداقة وحبّ مع الشّحرورة صباح إلّا أنّهما لم يتزوجا.
شهادات!..
قيل ونُشِرَ عن فهد بلان الكثير، ومن أشهر ما قيل فيه، ما قالته أم كلثوم: “يعدّ مطرب الرّجولة فهد بلان، لوناً جديداً في الغناء العربي”، وما قاله الملحّن محمد الموجي: “صوت فهد بلان يمتاز بالقوّة والجمال معاً”، إضافة إلى ما قاله الموسيقار سيد مكّاوي: “تعطي فهد بلان اللحن شجرةً عاريةً، فتسمع منه اللحن مزهواً بأجمل الثِّمار”، كما قال الشّاعر سميح القاسم: “فهد بلان ظاهرة فنية غير متكرّرة”، ومن جهته قال الكاتب علي عقلة عرسان: “فهد بلان فارس الأغنية، تليق به العباءة، عاشق يتماهى مع عشقه الغناء”.
نزيف .. وداع
في الرّابع والعشرين من كانون الأول عام 1997 أصيب فهد بلان بنزيف في الدّماغ، وتوفي عن 64 عاماً، رحل عنّا من قال فيه الشّاعر الرّاحل شوقي البغدادي: “مَن المطرب الذي يمكن أن نسمّيه سورياً حقَّاً بعد رحيل فهد بلان، من يمتلك صوته وأصالته وموهبته وقدراته الخُلقية والفنية الفطرية على اختراق الأوساط الفنية العربية جمعاء، دون أن يضحّي بشيء من أصالته؟!”